الجمعة، 5 ديسمبر 2014

الحيطة والحجر (2)

صلى الجمع المغرب أمام الدكان كالعادة في فرشات يعدها عبد الله وابنائه .. ورافقهم في الصلاة حجر والشباب .. وبعد المغرب أنفضوا جميعا كل ناحية بيته .. بقى عبد الله وابنيه خالد وحاتم مع حجر يشربون شاي المغرب أمام الدكان .. كل سارح يفكر بطريقته .. الشباب يغمرهم الأعجاب بحجر الخارق . .وعبد الله مشغول بما آل اليه الحال مع أهل الحارة الذين باتوا لا يطيقون حجر . فأصبح صامتا لا يتحدث ولكنه تفاجأ بمداخلة حجر .
- الناس الحلة بقوا ما يحبوا حجر يا حاج عبد الله صاح ؟.
عبد الله مندهشا . كيف مين قال لك الكلام دا ؟
حجر : حجر وأولاده كانوا شغالين جوة وسمع نقاشهم معاك .. رغم أنه ما فهم كثير لكن حجر يحس حجر بشر .
- لا لالا لا يا حاج حجر بالعكس الناس كانوا معجبين بإنجازك .. كيف قدرت من مواد قديمة وسخانة تعمل بيت جميل . تقريبا بيتك دا يا حجر حاليا أجمل شئ في حلتنا ..
كلام عبد الله وثناءه أعاد الابتسامة لحجر وأبرز اسنانه الصفراء يضحك سعيدا بالاطراء .
- يا أبوي والله عم حجر دا راجل فنان ونحن اليوم اتعلمنا منه حاجات لوقعدنا سنة كاملة في معهد ما كان تعلمناها .
- تمام يا حاتم وعمكم حجر لسع حا يعلمكم حاجات كثيرة . ما كدا يا عم حجر .
- طبعا يا حاج عبد الله ديل هم اولاد حجر .. حجر يعرف حاجات كثيرة . مكاينيكا وكهربا ونجارة وحدادة وبناء .. ممكن أعلمهم وأطلعهم رجال مهمين ومفيدين .
إبتسم الشابين متحمسين وسعيدين بهذه الروح التي سادت بعد سحابة الكآبة التي ظهرت على محيا حجر بداية الجلسة .
أما في مكان آخر من الحارة أمام الصيدلية الوحيدة التي يديرها ويمتلكها الصيدلي الشاب مصعب .. يجلس معه ثلاثة من الشباب الذين شاركوا حجر في انجازه يحكوا لصديقهم مصعب ما فاته .. وعن عبقرية هذا الرجل الغريب حتى في استخدام الأدوات اليدوية .
يقطع حوارهم أحد الأعمام المتمردين على وجود حجر في الحارة الحاج علي صاحب المخبز .
- يا عاطف انتو كنتوا شغالين مع الراجل المجنون حجر دا في الكشك بتاعه ؟.
- أيوا كنا شغالين لكن دا ما راجل مجنون يا عم علي .
- طيب خلونا من مجنون ولا ما مجنون ما اتونس معاكم حكى ليكم هو مين وجايي من وين وعايز شنو في حلتنا ؟
- أبدا هو كلامه كله في الشغل أقطع هنا يا عاطف أمسك مع خالد يا حاتم وكدا .
- طيب ما فهمتوا أي شئ من كلامه دا .
- فقط العرفناه أنه الراجل دا بيستخدم أدوات النجارة ويوظفها بطريقة عجيبة انا ما شفتها ولا حتى في معامل الكلية .
- زي شنو يعني ؟
- يعني مثلا يمسك زاوية الحديد بتاعة النجارين دي يخطها بأوضاع مختلف يقوم يقطع العلامات دي بالمنشار ويمسك خشبة ثانية يعمل فيها نفس الشي .. لامن يوصل الخشبيتن مع بعض بالمسامير والغرا .. يطلع شكل عجيب مثلثات بزاوية حادة .أو يمسك علبة اللبن ويعمل نص دايرة .. ومسك خشبيتين مع بعض صنع منهم برجل يفتح ويقفل وثبت فيه قفيص بتاع سلك الكهربة علق فيه قلم الرصاص وبقى يستخدمه في الدوائر والأقواس ..
- طيب أها الحاجات دي عمل بيها شنو .
- والله يا عم علي عمل حاجات أنا ما شفتها حتى في معارض الاثاث .. عمل كراسي تتطبق ومثبتة في الحيطة .. تنزل الكرسي تلاقي طلعت له رجول ..عمل سرير مثبت في الحيطة ممكن تطبقه توسع به الارضية أو تفرشه .
- الكلام دا كله في العشرة أو الاتناشر ساعة دي ؟
- أيوا يا عم علي .. وكمان طريقه في توصيل الكهربا .. مرر الاسلاك في أركان الغرفة وغطاها بالغراء .. حتى أنا سألته قلت له ما ممكن واحد يدق مسمار بالخطأ ويتكهرب .. ضحك وقال لي في حد بيدق مسمار في ركن أو في زاوية يا عاطف؟ الا لو كان هو عايز يتكهرب . وضحك وكلنا ضحكنا . وقال لو دقيت مسمار في ركن غرفة راح تستفيد منه شنو لا تقدر تعلق فيه شي ولا ممكن تثبيت به شئ في الركن .
بعد هذا الحديث صفق عم علي يديه وهز رأسه في حيرة وخرج من الصيدلية حتى لم يقل هو ماذا كان يريد أن يشتري من الصيدلية .
بعد العشاء جاء طفل الى دكان عبد الله وقال : يا عم عبد الله ناس أبوي مجمتعين في ديوان الطاهر وقالوا ليك عندنا إجتماع مهم تعال هناك . براك ما يجي معاك أي زول .
أجتمع كبار الحارة في ديوان حاج الطاهر بدعوة منه .. لمناقشة موضوع الساعة .. يوحدهم هدف واحد هو إبعاد حجر عن حارتهم . ورغم عن اختلاف الدوافع .. استعانوا بأستاذ إسماعيل أكثرهم تعليما . ليقاوموا به دفاعات عبد الله ومنطقه القوي الذي كادوا أن يضعفوا أمامه بعد خطبته الأخيرة التي نجحت في جعل غلهم المتفجر في أن ينكمش قليلا لكنها لم تفلح في أزالته .
حاج الطاهر : يا أخوان الراجل دا صحي شكله غلبان ونحن ما عندنا معاه مشكلة شخصية لكن ما عايزين لينا راجل غريب في حارتنا ونحن تقريبا بقينا شبه أهل يربطنا نسب ومتعودين ندخل بيوت بعض بدون استئذان .. لكن يا أخوان في نفس الوقت ما عايزين نخسر أخونا عبد الله هو عمود الحارة دي وزعيمها . وزي ما عارفين هو متمسك به شديد ولانه كمان عنيد قدر ما أصرينا نحن يصر هو أكثر ..
إسماعيل مقاطعا : القال ليك منو يا حاج الطاهر أنه الراجل دا غلبان يمين البيت الصغير البناه دا يقول أقل شي يكون مهندس في وحدة عسكرية أو مصنع أسلحة أنا سمعت الأولاد حكوا لي عن طريقة قطعه للخشب والكراسي البتتطبق بطريقة غريبة .. بعديت أتذكرت سمعت هيثم ولدي أمس بيحكي لامه قال ليها شاف حاج حجر بيقرا في الجرايد القديمة البيلف فيها عبد الله مبيعاته ديك ويضحك .حتى أمه قالت له بيقلد الناس زي ما بيعمل الاطفال صغار ...
- كلامك صاح يا استاذ اسماعيل كم مرة انا لاحظت له بيقرا في جرايد الانجليزي القديمة الفي الدكان بيشتريها عبد الله بالكيلو ويعملها قراطيس للسكر والدقيق .
- وعلى فكرة يا عم عثمان الجرايد دي ما انجليزية .
- أنجليزية كيف ما انجليزية .
- يا خ دا شغلي انا حا تغالطني فيه كمان .
- ياخ ياها نفس كتابة الانجليزي نحن ما دايرين نغالطك لكن يمكن أنت ما قريتها قبل كدا .
- كيف ما حاولت أقراها انا بحكم العادة أي كلام مكتوب بحروف الانجليزي بحاول أقراه .
- طيب لغتها شنو الجرايد دي .
- يا أخوان لازم تعرفوا في لغات كتيرة لاتينية و أروبية تكتب بالحروف الانجليزية يعني الفرنسية والايطالية والاسبانية والبرتقالية .. وغالبا الجرايد دي بتجي من دول أمريكا اللاتينية وتتباع بالحزم لأصحاب الدكاكين .
- يا جماعة اكان كدا الكلام دا ما بنسكت عليه الزول دا ما ساهل وأكيد عنده هدف ولا مصيبة جايي يعملها .
- كلامك صاح يا حاج الطاهر .. بعدين عبد الله ما يخمكم بكلام حلتنا فيها مفاعل نووي ولا مصفى بترول عشان يرسلوا لها جاسوس . الاسرائليين خطيرين جدا في لعبة الاستخبارات دي . ممكن يرسلوا جاسوس اسرائيلي عنده أصول من نفس أهل البلد يعيش وسطهم لغاية ما يتعودوا عليه في الوقت المناسب يقوم بضربته ويختفي .
- والله يا أستاذ أنت خوفتنا تب كان كدا خلونا نرسل لنا شافع لعبد الله خلوه يجينا هسع دي نحسم معاه الموضوع دا والداير يسويه يسويه .
- كلام مظبوط يا حاج الطاهر ولازم نطرق الحديد وهو سخن وما ترخوا لعبد الله يخمكم بكلام الحكم والطيبة والشهامة والكلام الفارغ بتاعه دا ما بيأكل عيش لامن تقع المصيبة .
- تعال يا ولد يا معتز أمش لعمك عبد الله قوله دايرنك في بيت الطاهر وقوله ما يجي معاك أي زول سامع ولا لا ؟
-
- هذه هي خلفية اللحظة التي وقف فيها الطفل أمام عبد الله مقدما له طلب الدعوة للاجتماع الطارئ .
عبد الله بفطرته وقريحته عرف الغرض من الاجتماع . رفع رأسه ونظر لحجر دون أن يتحدث ولكن حجر أيضا بذكائه قرأ أفكار عبد الله ..وقال .
- يا شيخ عبد الله أحسن تخلي حجر يمشي بدل ما يسبب لك مشاكل مع أهلك وعشيرتك .
- تمشي تروح وين يا حجر أنت في حمايتي وما ممكن أخليك تمشي الا أضمن لك حياة بديلة تحفظك وتصونك .
- أنت رجل شهم وكريم ما قابلني مثبك في الدنيا الواسعة وأنا ما عايز أكون سبب في مشلكة لك بعد ما قدمت لي كل الخير .
- أسمع هنا يا حاج حجر ..أنا مستعد أفديك بكل ما أملك .. بس بشرط أنت كمان لازم تكون بقدر ظني فيك . يعني ما تكون مجرم هربان أو مطلوب للعدالة بأي سبب آخر ..
- أبدا يا عبد الله والله أنا لو كنت عامل أي واحدة من الانت ذكرتها ليك ما كان بقيت معاك اسبوع واحد حتى ما أضرك وأنت شخص تعامل الناس بحسن نية و طيبة ومروة نادرة كيف حجر ممكن يخزل بني آدم .مثلك ..
- شوف هنا يا حاج حجر انا حتى الآن ما سألتك من حكايتك وسبب هجرتك لينا رغم أنك تميت تلاتة شهور وقلت أسيبك براحتك لو عاوز تحتفظ بأسرارك هذا شئ يخصك .طالما ما أنك ما اذيت أحد ولا ظهرت جهة تبحث عنك . لكن يخيل لي الآن قصتك لازم تحكيها على الأقل عشان نقدر ندافع عنك .
- والله يا حاج عبد الله أنا قصتي ما خايف منها ولا فيها شئ يخجل ..وأنت لو سألتني من أول يوم كان حجر حكى لك كل التفاصيل . لكن زي ما أنت عارف حجر شخص ما يحب الكلام ويحب يجاوب قدر السؤال . وهذا طبعي من زمان .
لكن أؤكد ليك لو سألتني كنت حكيتها .. والآن ممكن حجر يحكي قصته كلها .
عبد الله ارتاح قليلا وتهللت اساريره بعد أن سمع هذه البادرة من حجر . لكن بعد تفكير قصير عقب مسرعا قائلا .
- لا لا لا ما تحكيها لي عشان أنا اروح اجتماع الجماعة ديل وأحلف قسم أني ما سمعت قصتك .. لكن راح أرسل لك واناديك عشان تحكي قصتك قدام الجميع ..
لكن يا حجر لازم أنا اؤكد ليك من هسع لو اتضح قصتك أنت ظالم فيها احد أو ارتكبت اي جريمة من أي نوع . من محل الاجتماع داك نتفارق لا تحرجني ولا أحرجك .. تجي نتحاسب وتاخد الفيها النصيب وتتوكل على الله .
- انا ما كمان مش راح أحكي بس أنا عندي صور من مستنداتي ممكن تخليكم تتأكدوا من حكايتي تماما .وأني أنا ما ألفت قصة عشان أضللكم وأضمن العيش بينكم .
- خلاص أتفقنا أنا راح أروح قدامك وخليك جاهز .
- أنشاء الله يا حاج عبد الله ما راح أخزلك ولا أخليك تندم على أي شئ عملته معاي .
دخل عبد الله الى بيته ليستعد وترك خالد ابنه مع حاج حجر في حراسة الدكان .. وخرج بعد قليل . بكامل هيبته وزيه السوداني الكامل الناصع البياض وكذلك حمل عصاة الابنوس مع لبسه حذاء الجلد الطبيعي .. وهذه الهيئة ما كان يخرج بها الا للمناسبات العظيمة كالاعياد ومناسبات الزواج .. لكنه يبدو أنه تعمد ذلك .كأنه سيخوض معركة أستعد لها بكل اللبس اللازم وهي كذلك فعلا في تقديره ولطالما خاض امثالها ضد اسماعيل المشاكث.. وغيره من المعارضين .
نبذة قصيرة عن عبد الله هو ضابط اداري معاشي خريج جامعي تخصص علوم ادارية .. وقد كان أبان خدمته مادا يده للكل . فأعان الحارة على المستوى العام والمستوى الخاص .. وعلى يده وبدعمه وحماسه وعلاقاته الشخصية بني مسجد الحارة والمركز الصحي ونادي للشباب .. وهو من ابناء الحارة أي بيت والده موجود بها وبها كذلك بيوت أخوانه وأخواته .. و حتى على المستوى الفردي كان المرجع الأول لكل أهل الحارة موظفا علاقاته العامة في خدمتهم كقطع الآراضي والضمانات البنكية للقروض وتعليم ابنائهم وغيرها من خدمات ..
وفوق ذلك يعتمد على شخصيته القوية والاعتداد برأيه وهيبته سوى بالزي الرسمي أو الشعبي و كذلك لم يكن يتمسك بموقف الا أذا تأكد من صحته.. وله معارضين في الحي من أمثال أستاذ اسماعيل الذي كان ندا له منذ أن كانوا طلابا بالمدارس .اسماعيل كان معارضا لكل مشاريع عبد الله السابقة لكنه كان يفشل ودائما ما ينتصر عبد الله في النهاية ويقوم المشروع .. لكن اسماعيل كان يتميز ايضا بشخصيته القوية وجرأته فهو كان الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقول لعبد الله لا .. لكنه كان ينهزم لان معارضته دائما لاتجد مبررا مقنعا .. ودائما يتضح انه غير مستفيد على المستوى الشخصي من معارضته للمشاريع وكذلك غير متضرر من قيامها .. أما عبد الله لان له الرأي والقدرة المادية فكان دائما ما ينجح .. وبسهولة تتحول مشاريعه الى صروح مهمة لا يستغنى عنها الناس في الحي..وتجسد هزيمة اسماعيل وتراكماتغله وغيظه .
لذلك أسماعيل رأى أن إزاحة حجر هو مشروع عمره فحشد له كل طاقته من المنطق والاقناع حتى كاد أن يعمل غسيل مخ لأهل الحارة .. وفي هذه المرة أقنعهم بأن له مستندات تثبت تورط حجر وخطورته على حارتهم وسيخرجها في الوقت المناسب .
بعد القليل يسمع الجمع طرقا بالعصا على باب الحوش فيعرفون أنه عبد الله وطريقته المعتادة ويعقبها بالقاء السلام بصوت جهير .. وكل هذه الخطوات كان يتعمد فعلها فهو يعرف سحرها في تغيير كل ترسبات اسماعيل التي زرعها في نفوس أهل الحي البسطاء في غيابه وقد صدق حدثه اذ انهالت عليه عبارات الترحيب من كل حدب وصوب وبعبارات مختلفة مما يدل على أن فكرته نجحت في تفتيت حتى اتفاقهم على طريقة الترحيب به .
( إهلا يا ابو خالد اتفضل ..أهلا بالاستاذ عبد الله .. وعليكم السلام يا شيخ عبد الهت .. مرحبا بالزعيم عبد الله .. أتفضل يا ابو النسب .. ووووو الخ )
عبارات الترحيب وحدها جعلت استاذ اسماعيل يتلفت بغيظ كل ما انطلقت عبارة من مكان ما .. وشعر بأن موقفه ترنح من الضربة الأولى حتى قبل ما تبدأ المعركة ..لكنه مسك جيبه وقال أن المستند الذي في جيبه سيقلب الطاولة على رأس عبد الله ورأس الجميع .
وبدأ عبد الله بعد أن هيأ له موقعا في وسط المجلس : خير انشاء الله عايزني لشنو ؟
حاج الطاهر : والله يا شيخ عبد الله كنا بنتناقش في موضوع الضيف المعاك ( وصف حجر بالضيف وحدها عكست تراجعه عن موقفه الآول . مما جعل اسماعيل يحدجه بنظرة نارية عكست غيظه منه) .
عبد الله : أها ماله الضيف المعاي .؟
- لا بس قلنا الراجل غريب عن الحي ونحن ما عارفين أصله من فصله وأصبح ييشكل خطر على أهل الحلة والاطفال وكدا .
- فجأة كدا يا حاج الطاهر أصبح يشكل خطر على الحلة؟ انتو شفتو منه حاجة غلط ؟ما راجل معانا من ثلاثة شهور دخل بيوتنا وأكل معانا وحضر مناسباتنا شنو الخلاكم تقولوا يشكل خطر ,
- ياخ والله انا مش عارف أوصل ليك الفكرة ما تتكلم يا استاذ اسماعيل .
انبرى اسماعيل بغضب زرع فيه كل غله السابق ووقف على طوله . :أيوا يشكل خطر .
عبد الله :أقعد يا استاذ اسماعيل واهدأ الموضوع ما بستاهل ونحن ما جايين نتحارب وانتو كلكلم عارفين ما في واحد أحرص على مصلحة الحارة دي مني أنا .. وانا لوشعرت أنه في خطر عليها حا أمنعه حتى قبل ما بتسمعوا به ..
همهم الجمع مؤمنين على كلام عبد الله لولا أن استاذ اسماعيل وقف قبل ما يسري سحر عبد الله على عقل الجميع فيفشل مسعاه مرة أخرى . أيوا عندنا دليل ..
وأستخرج اسماعيل من جيبه قصاصة من جريدة أجنبية فيها صورة ملونة كبيرة لشخصية حجر أو شخص يشبهه بالزي العسكري ورتبته عقيد ..فاجأت الصورة الجميع بمن فيهم عبد الله نفسه وسرت همهات واتسعت العيون بالدهشة وفتح الجميع أفواههم وانتظروا رد فعل عبد الله بعد ما حدق معهم في الصورة وتقارب حاجباه وانكمشت عيونه مثلهم تماما .
سكت الجميع منتظرين رد فعل عبد الله . كما شعر اسماعيل بأنه أنتصر بالضربة القاضية هذه المرة وبدأت الابتسامة تتسلل الى وجهه رغم محاولته كتمانها لكنها قاومته فهو ظل ينتظرها زمن طويل .
لازال الجمع يدققون نظرهم في صورة اسماعيل الذي لا زال يرفعها بيديه الاثنتين .. ويلف بها على الحضور ويتبسم بتشف واضح لم يستطع أن يخبيه هذه المره ولا أعتقد أنه أراد أن يخبيه .. كل الحضور أصبحوا يلقون نظرة على الصورة وأخرى على وجه عبد الله ليشاهدوا رد فعله .. لكن ما حيرهم أنه كان هادئا كأنه يعرف السر . ومطمئن على موقفه ..
- أها قلت شنو يا حاج عبد الله لسع مصر أنه زولك دا درويش ومسكين ومش عارف شنو مواعظك القديمة دي يا رجل البر والاحسان ..قالها اسماعيل مفشيا غله هذه المرة بالمكشوف تعبيرا مباشرا لم يكتفي بالتبسم والتلميح ..
بعض الحضور تباينت مشاعرهم تجاه شيخ عبد الله كل حسب موقفه منه . من كان يحسده ويغير منه منذ مرحلة الشباب شعر بالتشفي والسعادة من موقفه الذي ظنوه منهزما مثل ما شعر استاذ اسماعيل تماما .. ومن كان متعاطفا معه ولا زال يذكر خدمته له ومعاونته . تمنى في داخله أن يجد مخرجا من هذه الورطة .. ومن كان يثق فيه ثقة عمياء كان موقنا بأن لعبد الله ألف مخرج يعرفه هو ولا أحد غيره وأكيد عمل كل الاحتياطات لهذه الخطوة والتي كان يتوقعها .
أخيرا وقف عبد الله على طوله .. ظن الحضور أنه أستسلم وسيذهب ليطرد الرجل ويقفلوا هذا الباب للأبد .. مع تحقيق أول نصر مدوي لأسماعيل ستتداوله الحارة زمنا طويلا .. لكن المفاجأة أن عبد الله تنحنح استعدادا لخطبة أخرى . جعلت أنصاره وداعميه تعود لهم البسمة من جديد ..أما خصومه قد أصيبوا بخيبة أمل لآنهم يعرفون منطقه وقدرته على قلب الطاولة بحججه الدامغة .
- أسمعوا هنا يا أخوان أنا زي ما قلت ليكم يهمني أمر الحارة دي بناسها ومبانيها .مثل ما يهمني أمر بيتي وأولادي ..وأولادكم بخاف عليهم زي أولادي تماما ..
- طيب تدخل لينا المجرمين وتدافع عنهم لشنو ؟
- يا اسماعيل ما تسيبو يكمل ياخ ما تقاطعه لو سمحت .
واصل عبد الله : أنا الزول دا زي ما حكيت ليكم قبل كدا جيت افتح الدكان من الصباح لقيته نايم في عتبة الدكان يرجف من البرد والجوع . في الأول فكرت أطرده لكن قال لي أنا جوعان .. أكيد أي أنسان عنده ذرة شفقه لا يمكن يطرد أنسان في حالة زي دي على الاقل قبل ما يديه أكل .. لامن أديته أكل شفته أكل بنهم وكمية كبيرة .. كل الرغيف الباقي من ليلة أمس وكل كاسات الزبادي أكلها يعني حالته تصعب حتى على اليهود .
- أيوا بس ركز لينا على حتة اليهود دي بالله لانها مهمة في الموضوع .
- تاني يا اسماعيل رجعت تقاطع .
- آسف خلاص واصل يا نصير اليهود .
عبد الله : استغفر الله العظيم . .المهم قلت حرام أخليه يمشي ويمكن المرة الجايه ما يلاقي واحد يأكله أو يحميه وحا يظل ذنبه معلق في رقبتي .. عرضت عليه العمل أن ينظف وكدا .. وزي نما تتذكروا أنه الراجل دا مكن أول ثلاثة ساعات ظهرت فيه طاقة ما عادية ..
- ياخي أختصر الكلام دا كله نحن عارفنه دفاعك شنو بعد ما أتضح أنه الراجل دا جاسوس ورتبة كبيرة في جيش من جيوش الأعداء .
- أسماعيل انت لو ما قادر تصبر وتدي عبد الله فرصة عليك الله أمشي خلينا نكمل الاجتماع دا مع عبد الله .
- أمشي. أمشي وين ؟ وعشان يلف راسكم زي كل مرة ونلاقي حاج حجر ادبس فينا وما بعيد كمان يبقى عمدة الحارة .
- طيب التزم بأدب الحديث .
- حاضر .
وواصل عبد الله في حديثه غير مكترثا بإعتراضات اسماعيل التي كادت أن تفجر كبده .: لغاية ما جينا قبل يومين انا وأم العيال نتناقش في وضع حجر والخريف على الابواب وكيف حاينام في المطر . وقلت لها نخليه ينام في الديوان مع الاولاد .. حلفت بدين أهلها أنه ما راح تخلي راجل غريب ينوم مع أولادها .
- دا الكلام مرة واعية والله .
- اسماعيل عليك الله أبوس رأسك أسكت خلينا نسمع عبد الله للآخر .
عبد الله بطريقته الرزينة في الخطابة والسرد جذب انتباه الحضور بكل تركيزهم رغم تشويش صديقه اللدود اسماعيل ومقاطعته في كل مرة خوفا من أن يسلب سحر عبد الله عقل الحاضرين .. لكنه كان يتوقف كل مرة لمقاطعة اسماعيل دون أن يرد ويواصل من جديد كاظما غيظه .. وكان ردع اسماعيل الذي ينطلق في كل مرة من أباء الحي من حاج عثمان وحاج الطاهرلاسكات اسماعيل تبرد غله قليلا .
وواصل عبد الهح : أها أنا وحاج الطاهر كنا نتناقش في حل الاشكال دا والرجل مسكين حرام نتركه ينام تحت المطر والبرد . وحتى حاج الطاهر جزاه الله خير قال هو متبرع له ينام في الصالون عنده لانه غير محتاج له بعد ما كلمته بإعتراض أم خالد ..
- يعني عاوز تلف عم الطاهر معاك دا كان زمان قبل ما نعرف أنه صاحبك بتاع استخبارات وجاسوس خطير.
- يا اسماعيل أنت ما تسكت بعدين احترم الناس يعتي كيف يلف راسي انا طفل صغير ما بفهم ؟
- لا لا لا العفو يا عم الطاهر ما قصدي والله ..
سرت همهمات وعبارات الانتقاد والغضب وانصبت كلها على اسماعيل هذه المرة دفاعا عن الطاهر الذي وجه له اهانة غير مباشرة .. الهوجة هي التي جعلت اسماعيل يخمد ويحس بأن الموضوع أوشك أن يفلت من يده ويرجع الجمع يلتفون حول عبد الله من جديد لذلك آثر أن يبلع لسانه ويطمئن نفسه بأن موضوع الصورة أقوى من أن يبطله عبد الله بحديثه المنمق .
- واصل يا عبد الله سيبك منه دا راجل جعجاع ساي .
وواصل عبد الله . أنا قلت فكرة أحسن لعم الطاهر بدل ما يحس الرجل أنه اصبح عالة على أحد انه نديه خشب ومواد بنا يبني بيها كوخ أو راكوبة قدام الدكان .. والطاهر مشكورا قال عنده اخشاب من ابواب وشبابيك قديمة كان غيرها بأبواب حديد وقال هي مرمية عنده في البيت دون فائدة راح يتبرع بها لحجر ..وانا كان عندي مراين خشب وزنك من عرش الدكان القديم ..اديناه المواد وجندنا الاولاد خالد واصحابه ساعدوه لغاية ما بنى البيت الانتو شفتوه وعمل الغلبة دي كلها .. يعني ما عمل اي ذنب أو جريمة غير بنى بيت لنفسه من المواد النحن أديناه له وبمساعدة الاولاد كمان .
- أولاد شنو كمان عاوز نخمنا أولادنا نحن ما بنعرفهم ؟ العرفهم شنو يعملوا عمل فني كدا .
أنا قلت بمساعدة الاولاد ما قلت الاولاد . بعدين لامن تشوف ليك عماره فاخرة في العاصمة مثلا قالوا بناها المهندس فلان هل تعني انه بناها بيده ؟ .. رغم أنه ما يكون مسك طوبة واحده بيده .. لكن ما في حد يقول العمارة بنوها العمال فلان وفلان وفلان ولا العمال نفسهم يكونوا متذكرين انهم اشتغلوا في العمارة دي ولا غيرها .
- ما نحن فاهمين الحتة دي وانت جبت الكلام لنفسك العمارة بناها المهندس فلان . يعني الكوخ العاجبك دا بناه مهندس ما زول عادي .. وعشان هو ما زول عادي ونحن ما عارفين هو من نحن ما عايزنه يعيش بينا .أنت تعرف الاولاد الساعدوه ديل في يوم واحد بقوا مبهورين بيه يعني ممكن يجندهم في أي حاجة هو عايزها .
عاد اسماعيل يستعيد موقعه الهجومي مستغلا الثقرات في حديث عبد الله بكل حرفية وكان ظنه أن عبد الله سيرخي ويعلن استسلامه . لكن عبد الله واصل حديثه ..
- بعد ذلك حدثت الضجة والحوار لان شكل الكوخ الصغير بهر الناس بجماله وشخص استطاع أن يحول مواد قديمة وخردة لتحفة فنية رائعة في خلال عشر ساعات فقط ..
- هوي هوي ما للدرجة دي كمان كشك شنو البيبهرنا نحن ما شفنا فلل ولا ما شفنا عمارات قبل كدا .
- أنا ما قلت الابهار لانه أفخم مبنى شاهده الناس أفهم القصد أنه بمواد قديمة مستعملة وفي زمن قياسي .. وبعد ذلك ظن الناس أنه حجر شخص أكبر مما هو ظاهر عليه وهو ليس مجرد درويش هايم في الشوارع . بل هو شخص ذكي و وراه سر كبير أنا شخصيا ما عارف ما هو لانه ما سألته .لكن ...
- أيوة كدا خليك عاقل وما تفرض على الناس شي أنت نفسك ما مقتنع به .
- يا اسماعيل ياخ مليون مرة قلنا لك ما تقاطع خليه يكمل .
- المهم بعد حديثكم أمس في الدكان أثناء ما هو شغال مع الشباب في الكوخ . هو حس بأن ألموضوع يخصه وجا بنفسه قال لي يا عبد الله أنا عرفت أنه ناس الحلة فجأة اصبحوا يكرهوني وانا أفضل أمشي بدل ما أسبب لك مشكلة مع أهلك وعشيرتك .
- ود الذين عرف نفسه انكشف هاع هاع هاع هاع ..
- لا الحكاية ما زي أنت ما فهمت ..
- ومال زي ما فهم منو ؟ . وبدأ اسماعيل يتبسم بخبث ويتلفت ناحية الحضور ..
عبد الله : انا قلت له شوف يا حجر أنت لو وراك سر خطير وممكن يسبب حرج ولا مشكلة للناس أحسن تمشي من نفسك . نحاسبك على عملك وتاخد مقتنياتك وتغادر الحارة بسلام وأمان نحن ما عايزين منك شئ .. لكن هو قاطعني قال بالعكس انا ما عندي مشكلة مع اي شخص في الدنيا ولا أحد يطلبني ولو عايزني أحكي لك قصة حياتي أنا مستعد ولو كنت سألتني منها من أول يوم كان جاوبتك وحكيتها لك . أنت عارف أنا شخص لا احب الكلام ودائما أرد قدر السؤال .
- أكيد الزول الوراه بلاوي يكون حويط يعني عاوزه يمسك ناس الحلة من طرف ويحكي قصته ؟ ..
وصل عبد الله حديثه لانه عرف أن الحوار وصل النقطة المفصلية التي يريدها الجميع . وقال .وانا خارج جايي عليكم فرر حجر يحكي لي قصته قلت له يا حجر لا تحكيها لي أنا وحدي تعال في الاجتماع وأحكيها قدام الجميع .وأناأقسم لكم بالله حتى هذه اللحظة أنا ما عارف قصة حياته ..
- ولا نحن عايزين نعرفها يشيل الحاجات النحن أديناها ليه ويمشي يتخارج بس قبل ما نجيب له الشرطة تمسكه .
- حاجات شنو الانت اديتها له يا اسماعيل أنت الوحيد في الحلة دي لامن جاك طردته من بيتك واهتنه كأنه حيوان ما بني آدم .
ارتفع الصوت وكادوا أن يشتبكوا بالايادي وعبد الله خرج من طوره لأول مرة لولا تدخل العقلاء وكبار الحي لحدثت مضاربة بينهما .
بعد أن هدأوا قليلا قال حاج الطاهر روح يا ولد مناديا أحد الشباب وقد أمره يطلب من حجر الحضور فورا للمجلس .
وصل المرسال الى حاج حجر .. وقد كان حجر قد تهيأ لهذه الخطوة اذ دخل البيت واغتسل ولبس ثيابا نظيفة .. مرتديا الزي السوداني كاملا ولف العمة أذ لا بأس من محاولته رغم عن أن طريقته تنم عن أنه أول مرة يلفها في على رأسه .. خالد متحمسا قال أنتظر يا عم حجر أقفل الدكان وأروح معك .. تحمس حاج حجر لرفقة خالد لأنه كان منزعجا من الطريقة التي ناداه بها الشاب شعر فيها بنظرة الدونية والاحتقار .. لكنه طالما وعد عبد الله عليه أن يكمل المشوار حتى النهاية .
انتبه الجميع ورفعوا رؤوسهم عندما القي عليهم حجر السلام بصوته الجهير واندهشوا من هيئته الجديدة . الزي السوداني أكسبه هيبة و وقار .. عم صمت قصير كانوا ينظرون فقط ناحية حجر الى أن انتبه حاج الطاهر وطلب من حجر الجلوس في ناصية المجلس ونظر ناحية عبد الله ليفتح الموضوع .
- عبد الله : يا حجر ناس الحارة ديل مصرين يسمعوا قصتك أرجوك أحكيها لينا
- إسماعيل : ايوة وورينا أنت لسع في الموساد ولا قدمت استقالتك هاهاهاهاها .
حجر لم يفهم مداخلة إسماعيل التي أثارت استياء الجميع ونظروا له بغضب بين بل كادوا أن يهجموا عليه لولا أن سبقهم حجر وبدأ في الحديث وقال :
- انا يا أخوان سوداني أو في الحقيقة أنا نصف سوداني . اسمي حجر الفكي حجر ..
- ملاحظين يا جماعة حتى طريقة كلامة اتغيرت وبقى يتكلم عادي زينا ؟.
عبد الله : طبيعي طريقة كلامه تتغير الراجل عاش معانا اكثر من ثلاثة شهور تطبع بطبع الناس وأرجوك ما تشوش على الراجل خليه يكمل حكايته لانها تمثل مصير بني آدم .
قال الطاهر غاضبا : والله يا أستاذ إسماعيل لو قاطعت تاني أنا ممكن أطردك من بيتي وما راح أندم طول عمري لأنك ما عندك أي احترام للناس وما عارف عينوك مدرس كيف .
هذا الحديث أراح عبد الله جدا و إسماعيل جحظت عيناه كأنه سكب على رأسه ماء حار فصمت مغطبا حاجبيه وصارا وجهه لولا الفضول وإصراره على هدفه لخرج من هذا المجلس ولم يعد لبيت الطاهر أبدا .
واصل حجر : جدي أبو والدي من أصحاب المشاريع المطرية الكبيرة في جهات النيل الأزرق .. ووالدي كان وحيد عند والديه .. لكن حسب ما حكى لنا الوالد رحمه الله ان جدي كان عصبيا وصعب المراس جدا كل الناس تهابه ولا يرحم أحد لأتفه خطأ .. يوم ما الوالد ارتكب خطأ أعتقد أنه شرب خمرا أو لا اذكر السبب .. لكن جدي ربطه في جزع شجرة لمدة ثلاثة أيام حتى كاد أن يموت .. تدخل الكبار وأهل الحارة محاولين جدي أن يعفيه لكنه لم يتراجع .أخيرا جدتي الله يرحمها جاءت وحررت والدي .. وهرب الوالد ولم يعود الى القرية حتى تاريخ اليوم .
هرب الوالد ناحية بور تسودان في الأول اشتغل في الميناء . تعرف على بحاره أجانب . أستخرج جواز أشر وسافر معهم ناحية أمريكا الجنوبية . حتى يضمن عدم رجوعه للسودان ولا حتى مقابلة جدي بالخطأ تفادى منطقة الشرق الأوسط كلها .واشتغل في البواخر التي تتجه الى الهند أو الى غرب أروبا . في واحدة من الرحلات من بريطانيا للأرجنتين تعرف على فتاة أرجنتينية كانت تدرس في بريطانيا وعائدة بعد التخرج .أعجبوا ببعض طيلة الشهر وهو فترة الرحلة ..أخيرا أقترحت عليه أن يصل معها الأرجنتين ويستقر وهي راح تضمن له وظيفة مع والدها محاسب في المطعم الذي يمتلكه .. وفعلا وصلا وتزوجا . واشتغل والدي مع جدي لامي في المطعم وكانت ثمرة الزواج أنا البكر وأختين .أختي الكبر تصغرني بخمس سنوات اسمها ميسون وهي طبيبة ومتزوجة من طبيب أرجنتيني والأصغر سارة تصغر ميسون بخمس سنوات وحاليا تدرس الهندسة .أمي لأنها متعلمة حتى لا يحس والدي بعقدة النقص أصرت عليه انه يكمل تعليمه فالتحق بمعهد فني ودرس النجارة وتصميم الأثاث .. لكن لأنه والدي كان حنين جدا أصلا ما نسى السودان وخاصة والدته وندم على حماقته والابتعاد عن أهله كان دائما ما يحكي لي عن حياتهم وعن ثروة والده وكيفية إدارته للأمور رغما عن أنه خرج من السودان غاضبا الا أنه كان فخورا بوالده .. ولذلك كان حريصا على تعليمي اللغة العربية .أخواتي لم يكن حريصات أو لأنهن كن صغيرات ما تعلمن العربي الا اختي الدكتورة ميسون أنا حرصت أنه أعلمها خاصة بعد ما توفى الوالد .
أما انا عن نفسي دخلت الجامعة ودرست التصميم الهندسي والدي كان مصر بعد تخرجي أنه أزور السودان وأزور الأهل وأتعرف عليهم . لكن لأني لم أجد وقت بعد الكلية التحقت بالكلية الحربية وتخرجت ضابطا برتبة نقيب .. في الجيش أيضا لم أجد فرصة للسفر .. تدرجت بالجيش حتى وصلت رتبة العقيد ونزلت المعاش الاختياري .. لان والدي بعد ما تخرج من المعهد وبمساعدة من والدتي التي ورثت المطعم من جدي لأمي بعد وفاته فتح والدي ورشة لتصنيع الأثاث وزوده بالماكينات والمخارط اللازمة . وبدأ يصنع الأثاث ونجح جدا في صناعة الأثاث الفاخر .. سرعان ما أشتهر وفتح معرض أثاث ثم معرض ثاني وثالث وكبرت الورشة وتحولت لمصنع أثاث ضخم أصبح يصدر للدول المجاورة . ونتيجة لأزمة قلبية مفاجئة توفى الوالد . وانا أصريت أن انزل المعاش الاختياري لأدير الأعمال .. لكن الوالد قبل وفاته وصاني وطلب مني أسافر للسودان وأتفقد الأهل وأربط أولادي وأخواتي بأهلهم في السودان .. أنا أيضا كن تزوجت بمجرد ما تخرجت من الكلية الحربية وعندي ثلاثة أولاد ذكور أكبرهم في الثانوي ..
للحظ السئ قررت أن أنفذ وصية الوالد وزرت السودان قبل سنة تقريبا وحسب وصفه زرت منطقة الجد وتقابلت مع أبناء عمي اكتشفت أنهم استولوا على كل تركة جدي وأشاعوا أن والدي توفى وغرق في البحر .. في الأول تنكروا لي تماما وزعموا أني نصاب مدعي وأن جدي حجر لم يبقى من ذريته أحد .. لكن أنا كنت أحمل مستندات وصور لجدي وجدتي مع كبار السن وعمدة القرية تعرفوا علي وتأكدوا من شخصيتي ..أبناء عمي في الأول تظاهروا بأنهم اقتنعوا وقبلوا الأمر الواقع ..واستضافوني عندهم في البيت وتظاهروا بالفرح وذبحوا الخرفان وعزموا الناس .وأنا كنت سعيد جدا بهذا التقارب .. لكن يوم ما بعد ما تناولنا وجبة العشاء صحوت بالليل على صداع شديد ووجع في المعده لدرجة أني بدأت أصرخ بأعلى صوتي .أولاد عمي تظاهروا بالانزعاج .وأحضروا السيارة كأنهم سيأخذونني الى المستشفى .ولكن بعد ساعة وجدت نفسي في قرية بعيدة من قريتنا .. عند شيخ دجال . بعد حديثهم معه ..تفاجأت بأن أعوان الشيخ ربطوني بالحبال ورموني في كوخ مخروطي مصنوع من قصب الذرة .وبدأوا كل يوم يقدمون لي أكل سيء في صحن مثل الكلب .. وكان الدجال يزورني كل يوم بعد صلاة الفجر ويتمتم بكلام غريب وهو يحمل سوطا من الجلد ويجلدني في ظهري حوالي خمسين جلده ويخرج .. أولاد عمي ما عادوا سألوا عني أبدا ..أما أنا وبخبرتي العسكرية بعد محاولات قدرت أفك الحبال واستطعت أن أهرب .. هربت ليلا حتى وصلت طريق الإسفلت أشرت لشاحنة وركبت على ظهر البضاعة وكنت ملصق رأسي مع الشحنة حتى لا يتعرف علي أحد .. وبعد مسافة حوالي خمسمائة كيلومتر تقريبا تحدث معي سائق الشاحنة قائلا أنه ذاهب إلى غرب السودان مدينة الأبيض . وخيرني أذا كان أريد المواصلة او النزول .. سألته أن كنا نحن قريبين من العاصمة وقال هذه المنطقة تبعد حوالي ثلاثين كيلو من العاصمة نزلت منه ومشيت ناحية أقرب منطقة عمرانية حرصت القرب من العاصمة حتى أستطع السفر والرجوع إلى بلدي . إلى أن ظهرت لي حلتكم ومشيت منها حتى وجدت المسطبة قدام دكان عبد الله ونمت فيها لأني كنت تعبان جدا وجائع جدا يومين لم أذق طعاما . وطبعا باقي القصة هي الثلاثة شهور التي قضيتها معكم هنا .
الجميع استحسن القصة وتأثروا بها عدا اسماعيل بطبيعة الحال وخاصة بعد ما ظهر تبرير الصورة التي يحملها ويعتمد عليها وحجر نفسه لا يعرف وجودها معه وقف وقال : الدليل شنو أنه قصتك دي صاح ؟
اسماعيل شعر أن كرته بدأ يحترق و ألقى سؤاله محاولا زرع الشك في رواية حجر كآخر محاولة منه لانقاذ موقفه الرافض لدعم حجر .. وخاصة بعد أن شعر أن قصته أثرت في الجميع وسلبت لبهم .
أما حجر قد تفاجأ بسؤال اسماعيل فعلا .. لم يكن يتخيل أن آخر شئ بقى معه وهو الصدق يمكن أن يضيع منه .. كان يعتقد أن صدقه هو رأسمال الذي سيعيده الى أهله وأولاده . وقال متمتما محاولا أن يضغط ذهنه ليجد حلا يرد به على هذا السؤال المباقت : حقيقة أنا أولاد عمي عندما أخذوني لهذا الدجال بحجة أنقاذي وعلاجي ما كان في وقت حتى آخذ أوراقي ومستنداتي حتى جوازي كان في شنطة ملابسي .. ولانهم ما رجعوا سألوا مني تماما عرفت أنهم كانوا ناويين يتخلصوا مني للأبد.. أكيد من الطبيعي ما أرجع لهم وأسأل عن أغراضي والا المرة الجاية راح تكون الطامة الآكبر لانه ممكن حتى يقتلوني .
- أسماعيل طيب كدا معناها نحن ما راح نتأكد من حكايتك يبقى كأنك ماحيكتها لنا .
عبد الله متدخلا بعد صمت طويل : كيف ما تتأكد أنت الصورة العرضتها علينا لحجر برتبة عقيد في الجيش مش تطابقت مع قصته ..ممكن تكون هي الدليل على صدق حكايته .. يعني أنت بنفسك جبت الدليل .
همهم الحاضرون مؤيدون حجة عبد الله القوية وخاصة أنه يريد أن يستخدم كرت اسماعيل الوحيد ضده هو شخصيا لابطال مزاعمه ..
حجر بعد حديث عبد الله بدأ يتلفت ويتساءل في صمت عن أي صورة يتحدثون .
حاج الطاهر : أيوا يا اسماعيل طلع الصورة بتاعتك وريها لحجر يمكن عنده بها علاقة .
أسماعيل حاول أن يماطل في أخراج صورته من جديد بل لو وجد طريقه لادخل يده في جيبه ومزقها لانه عرف أن الصورة هي التي ستحدث الفرق وتقلب الطاولة على دماغه .. لكن بعد الحاح الجميع أخرج الصورة ..
حجر بعد ما نظر للصورة في الأول جحظت عيناه ثم دخل في نوبة بكاء عجيب غطى وجهه بيده .. وثم عاد يقبل الصورة .. ورفع رأسه وقال عبارته المأثورة (الله كريم الله حي ) ..
ركز الجميع ناحيته مستفسرين عن سبب بكائه .. وقال هذه الصورة هي أعلان في جريدة وضعته أختي الدكتورة ميسون .. بعد أن غبت عنهم ثلاثة أشهر لم اتصل بهم ولم يعرفوا عني خبر وكنت قبلها أتصل عليهم تقريبا كل يوم .. وكل يوم أعرفهم بواحد جديد من أقربائنا .لكن عندما سجنني أولاد عمي عند الدجال وأخذوا تلفوني وأوراقي الثبوتية .. ما كان عندي أي وسيلة ولا أحفظ أرقام التلفونات .. الحمد لله الاعلان مكتوب بالغة الاسبانية وفيه أرقام تلفونات أختي ميسون وأرقام شركتنا وفروعها بالارجنتين .أختي أعتقدت أني رجعت لكن تهت في الارجنتين أو حصل لي حادث أو فقدت الذاكره ما كانت تتخيل أني معلق في بلدي السودان . الحمد لله هو دا فعلا الدليل الذي سيرجعني لاهلي .. ممكن أي واحد فيكم يتصل بالارقام دي ويقول لهم تعرفوا حجر وهو عندنا وأتركوا الباقي لاختي ميسون هي قادرة أنها تصل هنا بنفسها وترجعني .أرجوكم والحمد لله ظهر الحق .
عبد الله : ما تحتاج تطلب من أختك تتكبد المشاق نحن هنا كلنا أخوانك ومستعدين ما نتخلى عنك حتى نطمئن إتك رجعت لآهلك سالما ..وانشاء الله كلنا قادرين على حمايتك من أولاد عمك الأشرار .
حاول اسماعيل يقاطع الحديث لولا أن هاجمه عم الطاهر واضعا سبابته على فمه .أنت خلاص مهمتك انتهت والحمد لله ربنا جعل إنقاذ الراجل الغلبان المظلوم دا على يدك وبالوسيلة الانت جبتها عشان يديك درس وتترك أذية الناس بلا مبرر ما عايزينك تقول أي كلام تاني .. اسماعيل كاد يخرج من الجلسة محرجا بعد هذه العلقة السخنة من صاحب البيت لولا منعه الفضول عندما شاهد عبد الله يتصل بالرقم ويفتح مكبر صوت التلفون .. ويرد من الطرف الآخر صوت نسائي .. مد عبد الله التلفون لحجر ليكمل الحوار .
- هالوا ميسون حجر وووووووو كلام غريب عليهم دخل فيه يبدو أنه باللغة الاسبانية ..
ومن الطرف الثاني ترد صرخة بعدها صوت بكائي وكلام بعبرة بنفس اللغة وصراخ أطفال بفرحة يتخللها بكاء .. وحجر كان يتحدث ويمسح دموعه بعمامته . وبعض الحضور تساقطت منهم الدمعات تفاعلا مع هذا الموقف التراجيدي .. وبعد قليل تحول حديث ميسون الى لغة عربية مكسرة
( ليه يا ناس هرام أليكم هجر راجل تيب يهب الخير للناس ليه تأذبوه و تسجنوه )
- يا بت الناس ديل ما نحن والله ما نحن يا حجر ما تشرح لآختك ياخ .. الوحيد الذي كان متماسكا وخرجت منه هذه العباره هو عبد الله . أما الباقين فقد دخلوا في نوبة نحيب . وغطوا وجووههم بعممهم وشالاتهم .. حتى اسماعيل شعر بالشلل عاد وجلس على كرسيه واضعا كفيه على وجهه .
بعد أن تعدت موجة الحزن من المشهد التراجيدي العملي تأكد الجميع من صدق قصة حجر .. وحتى إسماعيل استسلم واعترف ضمنيا بالهزيمة .ز وكان أول من تحرك ناحية حجر مهنئا له على قرب انفراج أزمته سلم عليه بالحضن متمنيا من الله أن يجمعه بأهله ويكمل فرجه له ويجمعه بأهله .ز وحي الجميع متعذرا عن موقفه المتشدد واعتذر منهم مغادرا الجلسة . أما عبد الله شعر بالارتياح .ز لان المر بالنسبة له لم يكن هزيمة وانتصار بقدر ما كان يعني له انفراج أزمة هذا الرجل الغلبان الذي أتاهم مستجيرا .. بذل جهدا كبيرا حتى لا يكون له نارا بديلا عن الرمضاء التي استجار منها . الآن حان الدور العملي وبعد أن ابتدر عبد الله الحديث .
- الآن يا أخوان لازم في أسرع وقت نحاول نساعد الرجل دا يرجع لأهله قبل ما يكتشف أبناء عمه وجدوا ويدبروا له مصيبة جديدة .
الطاهر قال أول خطوة لازم يكون عنده تلفون جوال حتى يرجع ويكون على اتصال مع أخواته وأولاده . أبتدر الخطوة عمليا واستخرج الشريحة من أحد جواليه وسلم الجهاز لحجر الذي شكره .ز كما شكره عبد الله الذي بدوره أرسل خالد ولدا ليشتري شريحة جوال خاصة لحجر ..
حجر متحدثا بعد ان تجاوز مرحلة العبرات : يا أخوان خلوني أنا اشتغل معكم الى أن أجمع قيمة التذكرة وتكاليف السفر شهر شهرين .
عبد الله : لا يا شيخ حجر يا سعادة العقيد أنت لازم تسافر في أقصر وقت ممكن الناس الذين فكروا في قتلك أذا عرفوك أنك لازلت حي مستعدين يعملوا كل ئ للتخلص منك مرة أخرى .
- أنا مش عارف ليه الناس ديل عادوني لدرجة محاولة القتل .أنا ما كنت أبقى منهم شئ أنا جيت لصلة الرحم فقط لا محتاج لميراث ولا أي مال منهم .. معرض واحد من معارضنا يعادل قيمة كل مشاريعهم هذه .
- يا حجر أول ولدين من أبونا آدم قتل أحدهم الآخر وهذا قبل ما يعرف البشر الثروات والمشاريع ..قدر ما تحاول تبحث عن سبب يجعل الإنسان يقتل أخاه الإنسان ويكون مستحق القتل لن تجد .. الناس لا يعرفون أو يحسون أن روح الإنسان أغلى من كل كنوز الأرض .
- طيب يا شيخ عبد الله انا اعتبر خدمتكم لي دين في رقبتي أنشاء الله سأحول لكم التكلفة أول ما أصل .
- ولا يهمك أنت أخ كريم خلينا نفكر في خطوات عملية أولا يجب أن نذهب السفارة نستخرج لك جواز بديل .هم أول يعطوك خطاب لوزارة الداخلية يثبت أنك مواطن أرجنتيني فقدت جوازك قبل شهور حتى يفتح لك بلاغ فقدان في الشرطة .. وحتى لا تقابلك مشكلة في تأشيرة الخروج لاحقا .
عبد الله بفضل منصبه السابق وحنكته كان ملما بالإجراءات والقوانين .ز وحرص على حجر إلا يأتي بسيرة أهله في تحري الشرطة حتى لا يتحول الأمر الى قضية جنائية ومحاكم . يتعطل هو في المحاكم ويؤذي أبناء عمه مما يزيد حنقهم وشرهم .أذا كان هم حقدوا عليه فقط لوجوده حيا في هذه الدنيا فما بالك لو عرفوا أنه سيدخلهم في محاكم وقضايا .. وقد كان حكيما فعلا في هذه الناحية ..
الجميع كانوا متابعين الحوار وفي خطوة عملية مفاجأة أخرى أبتدرها حجر بدوا يجمعون الأموال ويضعونها في الطاولة أمام عبد الله مبدين روح تعاون اعتادوها بل اعتادها كل شعب السودان في ذات المواقف .. فعابر السبيل يكون محظوظا عندما يتعثر عندهم .
عبد الله وحجر شكروا الجميع .. وبعد أن وص خالد ركب حجر شريحته في تلفونه واتصل على شقيقته معطيها رقمه الجديد وشارحا لها ما حدث معه حتى الآن وطلب منها أن تشكر هؤلاء الأهل الجدد الذين كانوا أرحم به من أولى القربى . وكذلك طلبت منه أن يفتح الصوت وشكرت الحضور جميعا على موقفهم النبيل ..
نام حجر ذاك اليوم غرير في غرفته التي بناها .. قدر ما حاول عبد الله وأهله أن يستضيفه داخل البيت باعتبار أنه أصبح ضيفهم الآن لكنه طلب من عبد الله يتركه ليهنأ بجهده وبصمته هذا اليوم .. بل الحق يقال لم تكن هنالك في كل هذه الحارة تباهي غرفة حجر بهاءا وفخامة بغض النظر عن موادها الأولية ليثبت حجر بان الجمال موجود في عقولنا نحن علينا أن ننزله الى أرض الواقع لنغير كل ما كان قبيحا فقط بلمساتنا السحرية الموهوبة .
وفي صباح اليوم التالي كان عبد الله بسيارته وبصحبته حاج حجر متجهين نحو العاصمة لبدأ الإجراءات ..
أما أهل الحارة أنفضوا إلى حياتهم المعهودة لكن قصة حجر العجيبة احتلت مجالسهم وحواراتهم وجلسات القهوة نساءا ورجالا لو حاولنا نفتبس جزء من حوارهن ( أنت تعالي يا دي ما سمعتي بقصة حجر الدرويش .. سجمي ما له مات ؟ ... مات شنو أنت نايمة وين ؟ .أتاري الراجل طلع رتبة كبيرة في الجيش الارجنتيني وعنده أخته دكتوره ...أجي طيب الجابه عندنا شنو واتعلم العربي وين وبعدين شكله ما بيشبه الارجنتينين ناس مسي وماردونا والجماعة ديل .... لكن هو أبوه سوداني يا ختي دي قصة طويلة تعالي بعدين اشربي معانا شاي الضهر و بحكيها ليك ) ...
وكذلك الرجال ( والله تعرف يا حاج الطاهر أنا من أمس بحاسب في نفسي واتذكر المرات النهرت فيها حجر .. ياخ مرة أنا كشحت فيه جردل الموية لانه جا ماشي وعفص الخرطوش كنت بملا بيه الجردل . ياخ الراجل دا لا زعل ولا نهرني هز راسه ومشى .. بالله في النهاية الراجل يطلع مهندس وعقيد في الجيش وملياردير .. شوف تحمل الزول دا كيف ؟... الله يغفر لينا ساي ربنا بيدينا درس عشان تاني ما نحتقر أي بني آدم مهما كان شكله وهيئته . على كل حال نحن لازم نطلب منه العفو ويسامحنا كلنا ما اقل منك كده .. هي دي التربية الصاح من تواضع لله رفعه نحن الواحد مننا كان بقى شاويش ساي تاني ما تعرف تتكلم معاه )..
النهاية
في العاصمة أول خطوة توجه عبد الله بصحبة رفيقه ناحية السوق الإفرنجي واشترى لحجر طقم بدلة إفرنجية كاملا مع ربطة العنق والقميص وحذاء رسمي .. ومن ثم أخذ ضيفه الى احد الصالونات الفاخرة لحلق شعره ولحيته وتغيير ملابسه .. ساعات وتغير شكل حجر تماما ربما لو شاهده أهل الحارة لن يتعرفوا عليه .. عبد الله بخبرته العملية والعلمية يدرك تماما أن المظهر سيختصر كثيرا من الجدل والحوار بل الغلاط .. بل فكر أن حجر منذ طلته الأولى لو كان بهذا المنظر لصدقوا قصته كلها من أول يوم .. وهذا ما فطن إليه عبد الله عندما سأل حجر وهم في الطريق قائلا له لماذا لم تحكي لنا قصة من أول يوم وتحملت كل هذا العذاب تنظف بيوت الناس وتكسر الحطب وتنقل الحمولات الثقيلة . فقال حجر إن شكله وهيئته ولحيته العشوائية لن تكن لتجعل أي شخص أن يصدق قصته لو حكاها فضلا عن أنه خاف إن يكون أحد أهل الحارة له صلة بأقاربه فيعاد الى الجحيم من جديد . بعد هذا التغيير الذي طرأ على هيأة حجر ذهب حاج عبد الله وبرفقته حجر ناحية السفارة و تسهلت الأمور بصورة غريبة إذ طلب القنصل من حجر مقابلة الملحق العسكري اذا تعرف عليه سيسهل الأمور كثيرا .. طلب من السكرتيرة أن تستدعى القنصل إلى مكتبه لأمر هام . أول ما دخل الملحق العسكري إلى مكتب القنصل حدث ما لم يكن متوقعا .
كانت المفاجأة عندما شاهد الملحق حجر إذ دخل فيه سلام بالأحضان ومن حوارهما اتضح أنهما دفعة في الكلية الحربية .. وفعلا أستغل القنصل علاقاته بوزارة الداخلية أستخرج جوازا جديدا لحجر وأشرت له تأشيرة الخروج من السودان والدخول الى بلده الأرجنتين .. وبعدها ذهب برفقة عبد الله الى مكاتب الخطوط الجوية لحجز تذكرة الطيران .. وتم التوفيق في كل ذلك إذ وجدوا حجزا بعد ثلاثة ايام فقط . عبد الله كان يتخيل الأمر سيحتاج على الأقل أسبوعا أو أكثر .. لكنهم في نهاية اليوم عادوا الى الحارة بكل هذه الانجازات ..
وصلوا قريب العصر .أهل الحارة استغربوا من وجود شخص آخر يرتدي بدلة رسمية ظنوه شخص من جهة أمنية ربما تم اعتقال حجر وهذا الرجل جاء للتحقيق .لكنهم اندهشوا بعد أن عرفوا أن رفيق عبد الله هو حجر نفسه إذ بدأ عليه العز بعد أن تغير شكله تماما .. صدق من قال أرحموا عزيز قوم ذل .. لكنهم لم يكونوا يدركون أنه عزيز قوم .. ولم يكونوا يحسون بأن ما فعلوه تجاهه هو ذل ..إنما هي معاملة طبيعة درج الناس على فعلها مع أي شخص يحسون أنه أقرب للحيوان من البشر .. فقط لان كلامه بطئ ولسانه غريب وفهمه متأخر حتى لو كان هذا المعيار هو إحساسهم فقط .
قرر أهل الحارة أن يعملوا وليمة كبيرة لوداع حجر يوم الجمعة قبل موعد سفره بيوم .. كثير منهم تبرع بالخراف ربما هي كفارة بعد ما انتابهم إحساس بالذنب تجاه هذا الرجل النبيل ..
في اليوم التالي ليلة الخميس ومن المفارقات تلبدت السماء بالسحب وهطلت أمطار غزيرة في المساء .. حجر في حجرته كانت آمنة من مياه ألمطر لكن الطريف تسربت مياه الأمطار في ديوان عبد الله حيث ينام ولديه الكبيرين خالد وحاتم .. وخافت أمهما عليهما من سقوط السقف وقالت لعبد الله ( الليلة أولادي البيت راح يقع عليهم ).. عبد الله ( تفتكري الحل شنو ؟)..( خليهم يمشوا ينوموا مع عمهم حجر في الكوخ بتاعه ) ضحك عبد الله وقال لزوجته ( شفتي الدنيا دواره كيف ..أصلا سبب بناء بيت حجر لبيته هو لأنك رفضتي فكرة أنه ينام مع الأولاد في الديوان ..( ما خلاص أنت عاوز تحاسبني ما الحارة كلها غلطت في حق الراجل الطيب دا . بالعكس طلبي أنا بقى له سبب في أنه مشكلته تنحل كلها . يعني لو ما بنى كوخه دا بالطريقة دي كان ظل درويش في محله ينظف ويحمل البضائع ويأكل بواقي أكل الناس ) صدقتي يا حاجة أنا قصدت فقط أذكرك إنه من الظلم أن نحكم على الناس من مظهرها ...خلاص خلينا نمشي نستأذنه يستضيف معه خالد وحاتم في كوخه .
عد يوم الوليمة الكرامة وكان يوما بهيجا تبارى فيه أهل الحارة في أرضاء حاج حجر .. في السابق كان منهم من يفعل ذلك . لكن كانت من منطلق مختلف أذ كانوا يعتقدون فيه البركة والصلاح .أما الآن فعاملوه كضيف كبير أخطأوا في حقه .
في صباح السبت خرجت الحارة عن بكرة أبيها صغارا وكبارا ليودعوا حجر .. وبعضهم زرف دموعا تعبرا عن أشياء كثيرة يصعب حصرها .. وفي المطار كان في وداعه عبد الله وولديه .. لوح لهم مودعا ساكبا العبرات ..
وعاد عبد الله بعدها مع ولديه الى القرية .. خالد وحاتم ورثا الكوخ وأصبح مقرا للمذاكرة والسهر برفقة أصدقائهم .. بدأت الحارة تتجاوز تدريجيا ألأثر النفسي الهائل الذي تركه لهم حجر سوى بقصته أو حتى حضوره وشكله المميز ..
بعد مرور كذا شهر نسى الجميع حجر وخاصة أنه لم يتصل أو يترك رقما لمواصلته ربما لان في تلك اللحظات التراجيدية نسى الجميع هذا الواجب .
لكن تفاجأ عبد الله برسالة من مصلحة الجمارك تنبهه بأن له حاوية بالميناء البري بسوبا عليه أن يحضر لتخليصها .. قاد عبد الله سيارته وبرفقة أبنه خالد وذهبوا إلى الميناء ليعرفوا سر هذه الحاوية . بعد وصل الى مصلحة الجمارك والذي يعرف بعضهم بطبيعة الحال ودخل ناحية الحاوية وتم فتحها وجد بها طقم أثاث كامل وفاخر من خشب السنديان غرفة نوم ومجلس وسفرة بكراسيها وملصق بالطرد خط مكتوب بالخط الجميل ,
(أخي وحبيبي عبد الله السلام عليكم آسف للانقطاع لأني انشغلت بإعادة ترتيب الأوضاع التي ساءت في غيابي .. إليكم هذه الهدية البسيطة ..علها ترد جزء يسير من جميلكم الذي لن أنساه ما حييت وغرفة النوم هدية لولدنا العريس خالد .. كنت أتمنى أن أحضر عرسه اتحنن معه وأبشر في حفله .. لكن بقدر ما كنتم أنتم نعم الأهل كرهني اهلي الحقيقيين العودة للسودان مجددا كونوا بخير وكونوا على اتصال ..
أخوك حجر الفكي حجر وهذا هو رقم تلفوني .
عبد الله بعد أن قرأ الخطاب أتكى على جدارالمستودع ووضع رأسه فوق ساعده و بكى بحرقة وألم ..أستغرب الحضور عن سر هذه الرسالة التي أبكته . أحد الموظفين أقترب من خالد وسأله : أنت يا خالد أبوك يبكي ماله .
رد خالد : دي قصة طويلة جدا ما راح أقدر أحكيها ليكم الآن ..

تمت

الحيطة والحجر (1)

اعتاد أهل الحارة الودودين على وجوده بينهم .. لم يتوقفوا كثيرا أو يستقصوا من أين أتى .. عبد الله صاحب الدكان جاء ليفتح دكانه ذات صباح كالمعهود وجده نائما تحت المظلة إمام باب دكانه ,, أيقظه مستنكرا وجوده .. لكن ملابسه الرثة وحالته البالية وضحكته البلهاء وهمهمته غير المفهومة حركت فيه عاطفة الشفقة .. فتعامل معه برفق لم ينهره أو يطرده ..
- يا زول عايز شنو هنا نايم في المظلة مالك.؟
- حجر جعان عايز أكل يومين ما أكل حاجة .
تحدثه عن نفسه كأنه يتحدث عن شخص آخر جعلت حاج عبد الله يعتقد بأنه شخص درويش مما زاد عاطفته ناحيته اكثر فطمأنه وانزل العنقريب ( السرير الخشبي ) وهيئه له طالبا منه الانتظار .. دخل الدكان متحمسا لاطعام هذا المسكين .ز كما درج أهل الريف على الحماس لإطعام هؤلاء المساكين والدراويش متفائلين بوجودهم ومعتقدين في أنهم أهل الله الذين سيرزقون بسببهم . أحضر بضع رغيفات من صندوق الخبز وكاسين زبادي من الثلاجة وحلاوة طحينية وضعها على ورقة جريدة وفرشها أمام حجر . والذي أنقض على الأكل بنهم كأنه لم يأكل منذ شهر .. قضى على الثلاث رغيفات وكأسي الزبادي أما حلاوة الطحينية كأد ان يأكلها بورقتها .. لولا أن لحقه حاج عبد الله بكأسي زبادي أخريات وثلاث رغيفات .ز بل جمع له كل فتات الخبز والرغيف التالف ووضعه امامه .. ليقضي عليها كلها ويرفع رأسه كأنه يقول هل من مزيد .. لكن هذه المره مداه بزجاجة حليب وأخرى بيبسي .. شربهما حجر ..وتجشأ بصوت غريب وعالي كأنه عادم سيارة قديمة تم تشغيلها بعد ركنها زمن طويل .. رفع حجر رأسه مبتسما لعبد الله تعبيرا عن الامتنان .. مع انبلاج الفجر ظهر شكله الغريب .. جثته الضخمة وشعره الكثيف ألأجعد الذي يتخلله الشيب وأسنانه القبيحة والمتسخة والمتفلجة تشبه انابيب الغاز المصطفة في أماكن التعبئه .. ملابسه البالية ..التي تكشف نصف صدره بشعره الشائب المتناثر كشرك العصافير .
حاول حاج عبد الله أن يتحرى عنه ويحاوره .
- يا زول أنت جايي من وين ؟ واهلك وين .
رفع حجر رأسه ولازالت الابتسامة البلهاء مرسومه على وجهه ورد .
- الله في .
- أنت أنت أقول ليك جايي من وين .
- الله حي .
- عايز تشتغل ؟أشغلك معاي ؟
هذه المرة أجاب بإمائه من رأسه ..
دخل عبد الله داخل دكانه وأحضر له مكنسة طويلة بعصا وطلب منه أن يكنس المنطقة أمام الدكان ..
نزل حجر على المنطقة تنظيفا بطاقة وقوة غريبة جعلت عبد الله يراقبه باندهاش .. وخلال ساعة وقبل أن يحضر أي من الزبائن .. كانت الساحة امام الدكان شكلها مختلف تماما .. كوم أوساخ في ثلاث كيمان ضخمة ..
وجاء مستأذنا : حجر عاوز يولع نار ..
فهم عبد الله مقصده وأعطاه الكبريت وذهب أشعل الكيمان الثلاثة ..
ومرة ثانية جاء وقال حجر عاوز يرش بالموية ..
فهم مقصده مرة أخرى و اخرج له خرطوم المياه وأوصله بالحنفية داخل الدكان . وبعد ساعة أخرى تغيرت واجهة الدكان تماما .. وشعر عبد الله أنه أمام كنز خام وليس بني آدم عادي .. هذه الدهشة انتقلت لاهل الحي تباعا وهم يرون ساحة الدكان نظيفة ومرشوشة وهذه الشخص الغريب يجلس امام الدكان يترنم بأنغام غريبة وتارة يضحك وهو ممسك بخرطوم المياه يرش وتارة ينظف ..
لكن من هو هذا الرجل الغريب .. سؤال طاف في أذهان أهل الحي وظنوا سره عند عبد الله سيد الدكان .. ولكن لا يدرون بأنه يحمل نفس الاستفهام ..
- حجر عايز أكل تاني
تلفت عبد الله حوله من اين له بأكل بعد أن قضى هذا المخلوق على آخر رغيفات من باقي الأمس .. اخيرا قال في نفسه الجهد الذي يذله يستاهل الأكل ولكن هل يأكل البسكويت وهو الشئ الوحيد الباقي و قابل للأكل مباشرة . ومداه بعدة صناديق من البسكويت .. قرضها في دقيقة وظل ينتظر عند باب الدكان ولسان حاله يقول هل من مزيد .
عد اليوم ألاول لحاج حجر في أطار دكان عبد الله .. ومنذ اليوم أول لوجوده ظهرت بصمته أولا بوجوده هو شخصيا . كشخص غريب ضخم الجثة كث الشعر متسخ الملابس ضخم القدمين ينتعل نعالا باليا سحقه بالمشي وكاد أن يساويه بالأرض .. تبين منه قدماه المشققتين اللتان تشبهان الحجر تماما وتجسدان اسمه .. لذلك أصبح أهل الحارة أمام دهشة مزدوجة وجوده وبصمته في تنظيف المحل .الذي لم يعتادوا عليه إلا في الأعياد أو قبل مقدم شهر رمضان المعظم حيث يقوم حاج عبد الله مع أولاده وشباب الحي بتنظيفه ورشه بالماء استعدادا لمكان الصلاة والإفطار الجماعي لأهل الحي .. وما يجدر ذكره أن دكان عبد الله ملتصق ببيته أي الدكان جزء من البيت كما هو معهود في الحواري السودانية .
وبطبع أهل الريف أنهم غير فضوليين قد يسألوا عن شئ غريب بطبيعة الحال لكنهم لا يلحون في الأسئلة من أول سؤال سألوا عن حجر ( مين دا يا حاج عبدالله ) .( زول مسكين من أهل الله أسمه حجر .. قال عايز شغل وشغلته ).. أجابة كافية بالنسبة لهم فضلا عن انه لا يملك غيرها ..رغما عن الاستفهام الذي زرع في رأسه .. لكن لا شكوك ولا ظنون في أحد قد يكون مجنونا مجرما متصنعا فاقد الذاكرة . كل هذه المخاوف والهواجس التي تغلق أهل المدن وتزعجهم هم لا تعنيهم في شئ . فهم في عرفهم أن المجرم لا يصبح مجرما الا أذا ارتكب جريمة إمامهم يعرفونها أو يعرفه أحدهم على الأقل .. قمة التصالح مع النفس ومع الآخرين هي رمز السلام في الريف .
عد نهار اليوم في دكان عبد الله وحاج حجر يعمل بهمة يرتب جوالات الفحم وحزم الحطب وينظف تحتها . لا يتوقف الا عندما يحن عليه حاج عبد الله ويقدم له شئ ليأكله او يشربه .. توجد شجرة نيم ضخمة أمام الدكان اعتاد عبد الله أن يضع في ظلها العتقريب ( السرير الخشبي ) للمقيل وانتظار الزبائن ..هذه المرة أحضر من بيته عنقريبا آخر لحجر حتى يرتاح فيه .. لكن حجر لم يستجيب للدعوة يبدو انه قرر أن يحرق كل السعرات الحرارية الهائلة التي تناولها منذ مقدمه ..
الأطفال الصغار المرسلين للدكان كانوا يقفون يتفرجون فيه قليلا وبعضهم ينظر له برعب وآخرين يسخرون من شكله . لكن هو يظل منهمكا في عمله غير مشغول بأحد ولا حتى يعيرهم نظرة ..
عبد الله قلبه أنفتح له على للآخر لحجر دون تحفظ .ز نصف النهار فتح له باب ديوانه لاستخدام الحمام ..
قالت له زوجته كنت بقول ليك كيف زول غريب تخليه يدخل علينا البيت لكن سبحان الله من شفته كدا قلبه انشرح لي والخوف طار مني .
قال لها ديل أهل الله يا حاجة حبهم يخش القلب غصبا عنك .
عدت ثلاثة أيام على حجر في موقعه الجديد وبدأ الناس يعتادون عليه داخلا وخارجا بين بيت عبد الله ودكانه كأنه أحد أقاربه حاملا النفايات أو حزم الحطب .. لايتحدث مع أحد الا ردا على سؤال . وحتى ردوده مبهمه لا يفهم منها أحد شئ .. مثل ( الحمد لله .. الله كريم .. الله في .. الله حي ) كلها تنم عن شخص تعرض لظلم ما وكاظم غيظا عظيما .. وكذلك ممكن تعني شخص متخلف عقليا لايملك مفردات كثيرة تجعله يسترسل في الحديث .. أو أو الى آخره .. إذ أن كل الاحتمالات الاخرى واردة طالما أنه لم يفصح عنها ولم يقل أحد أنه يعرفه أو شاهده في مكان آخر .. لكن كيف وصل لهذه البلدة الريفية الصغيرة .. هل هو سوداني أيضا لا احد يعرف لان هنالك سحنات أفريقية كثيرة تشبه السودانيون بل كل سكان القرن الافريقي يكادوا يتشابهون لاتفرقهم الا اللهجات واللكنات .
حجر تعال وصل للحاجة دي شوال الفحم .. مهمة جديدة انبرى لها بكل همة وجديه بل اثار دهشة الحضور وهو يضع جوال الفحم في كتفه كأنه يحمل وسادة أو بطانية .. هز الحضور رؤوسهم وهم يسبحون الله على شؤونه في خلقه .. في بيت الحاجة حسنة التي أوصل لها جوال الفحم . ترجته وقدمت له مائدة فطور دسمة .. التهمها بنفس السهولة والسرعة التي حمل بها الشوال .. وترجته ليشرب الشاي لكنه همهم بعبارة ( حجر عنده شغل كثير ) منذ قدومه أول مرة يرفض تناول مأكول أو مشروب . عاد الى الدكان وأصبحت له وظيفة جديدة .. دست له الحاجة مبلغا في يده دساه في جيبه دون أن يحسبه .. وعاد الى عمله الآخر .. لا يجلس أو ينتظر فهو في همة ونشاط دائما حتى لو لم يؤتى أمرا بعمل جديد . دائما هنالك أشياء تحتاج لترتيب أو تنظيف .. عبد الله صاحب الدكان سعيد به أيما سعادة .هذا المخلوق الذي جعل بيئته ابهى في ظرف اليومين أو الثلاثة أيام التي قضاها معهم . لم يفكر أحد بأنه ربما كان يدفن نفسه في العمل الشاق ليشغلها عن التفكير في مشكلة ما .. بل لم يعتقد أحد أنه يفكر مثل البشر .. أصبحت عبارة حجر تعال وصل الشئ الفلاني لفلان .. تعني له أمر عمل جديد .. وغالبا ما يتلقى مقابله وجبة وحفنة من المال يدسها في جيبه .. ويعود ..
بل أصبح أهل الحي يتبارون في تقديم الطعام له . .منذ أن حل عليهم لم ترمى نعمة على الارض .. وأصبحت عبارات في البيوت تتداول من نوع ( يا أمي ملاح البامية دا ريحته أتغيرت .. سخنيه وأديه لحجر .. والكسرة ما ترموها أدوها لحجر .. كيكتك الحرقانة دي ما في زول بياكلها ليك الا حجر .. وفعلا يفعل ..) كلما زاد جهده زاد أطعماهم له وزاد جسمه ضخامة .. أكل كل شئ صالحا أو غير صالح للأكل ومن دهشة الجميع لم يبدو عليه أي أثر لتسمم أو مرض .. بل بعضهم حاول يجاريه ويأكل معه كاد أن يموت من شدة التسمم .. يا جماعة دا زول الله ربنا بيحميه قايلنوا زينا .. راجل متوكل على الله .. عبارات عبد الله التي يطلقها لتبرير هذه الظاهره كانت مرضية أكثر من كونها مقنعة . مرضية لانهم قوم يؤمنون بالله تماما ايمانا فطرية لا يشوبه أي شك ولا يحتاجون لدليل أو اختبارات عملية .. كونه أنه ما يأكله حجر يسممهم هم ولا يؤذيه بفتله كافية جدا للايمان بهذا السر العجيب .
بل شباب الحارة أصبحوا يتباهون به مع اقرانهم في الاحياء الاخرى .,كم من مرة أحضروا صينية حلوى ( باسطة ) في حضور زملائهم وكم كانت دهشتهم بعد ما يتناولها حجر كلها بل ويشرب العسل المتبقى .. يتجأشا كما (التراكتور) المركون عندما يتم تشغليه .. ويضحك ضحكته المرعبة وهو يكشر عن اسنانه الفظيعة .
أعتاد حجر أن يفرش سريره أمام الدكان بعدما مده عبد اله واسرته بفرش وغطاء .. لكنه كان يفضل النوم مكشوفا وحتى في عز البرد .. و يصدر شخيره الذي كان كافيا لطرد كل من تسول له نفسه الاقتراب . ذات مساء ما وبعد ما قفل عبد الله دكانه كان هنالك صبية من الحي يتسامرون تحت ضوء القمر كما اعتاادوا .أحد الضيوف من مدينة أخرى كبيرة .رأى أن سمرهم ممل فهو يريد أثارة وقال لهم تعالوا نشاغل المجنون بتاع الدكان حتى ( يسكنا ) . وافقوه على مضض . جاؤوا عند حجر وهو يغط في نومه .. وضع هذا الشقي قطعة من القماش بين أصابع قدمه وأشعل فيها النيران .. وجلسوا من بعيد يراقبون وبعضهم مرعوبا ..أشتعلت النار حتى أقتربت من الاصابع .. وفي اللحظة الحاسمة .
وقف الصبيان الصغار يراقبون عمليتهم الشقية بعد أن وضعوا فتيلة القماش بين أصبعي قدم حاج حجر .. وجلسوا متوترين بمشاعر متباينة .. بين الضحك والخوف .. هذا الشخص لازال غامضا .. لا احد يستطيع أن يتنبأ بردة فعله .. الشئ الوحيد الذي عرفه أهل الحارة عنه هو قوته الخارقة وقدرته على التهام أي كمية من الطعام تقدم له . لم يسمعوا منه عبارة ( شبعت ) أبدا فهم يعرفون أن البحر لا يأبى الزيادة وكذلك هذا الحجر .
قلبوهم الصغيرة تكاد تطير من الخفقان والنار لازالت تسري في قطعة القماش نحو هدفها وهو قدم حجر . بعضهم ندم وحاول أن يلحق النار قبل أن تصل .. لكن الضيف الشقي مسكهم وهو كتشوق لنتيجة فعلته الشقية .
وصلت النار قرب الأصبعين .. والصغار تأهبوا للجري بل بعضهم جرى فعلا ووقف في زاوية اللفة ..
لكنهم هلعوا جميعا بعد أن صدر صوت صراخ ضخم أشبه بخوار الثور من حجر .. كادت قلبوهم تتوقف وأعقبها صوت صفقة ضخمة أطار ما بقى من صوابهم من حجر بعد أن خبط النار في قدمه فأطفأها بخبطة واحدة .. وأنقلب نحو صفحته الأخرى مواصلا نومه وشخيره .مثل ما يخبط الشخص العادي ناموسة وخزته دون أن يستيقظ ..
هذه الحركة لوحدها جعلت الصغار ينفضون , أذا كان هذا المخلوق أصابهم بكل هذا الفزع والخوف دون حتى أن يستيقظ من نومه فماذا كان سيفعل بهم إذا فاق من نومه
.. الضيف الشقي حاول تجميعهم من جديد ليفعل شيئا آخر لكنه هيهات .. بل طلب أحدهم منه أن لا يأتي ليسمر معهم ليلا كفاهم ما شاهدوه اليوم وعاشوه بسبب شقاوته وأصابهم بخوف لا يمكن يخرج عنهم في القريب العاجل . بل بعضهم صرح بأنه لن يأتي لهذا السمر بتاتا .
أصبح الصبح لم يحكي أي من الصغار لأهله عن موقف اليوم خوفا من العقاب ..أذ أعتقد الأهالي جازمين بأن حاج حجر هذا له حماية ربانية .بذا لا يعتقدون أن أحد سيتجرأ لإلحاق ألأذى به .
عادت دوامة الصباح لحجر أستيقظ مع أذان الفجر كالعادة .دخل ديوان حاج عبد الله لاستخدام الحمام .. عبد والله واولاده الكبار أعطوه بعض من ملابسهم القديمة .. الجلاليب والعراريق البلدية والسراويل .. غيرت من شكله كثيرا وأكسبته هيبة بعد النظافة .. لكنه لازال كث شعر الرأس واللحية .. والتي أصبحت مبرمة في شكل حزم ..أشبه بدراويش الطرق الصوفية .هدى له أحد أهل الحي مسبحة خشبية كبيرة أصبحت ملازمة له يلعقها في رقبته عندما يكون مشغولا .وألا باقي اليوم لا تفارق يده ويلازمها بحركة شفتيه تمتمة ربما تسبيحا أو استغفارا .
الحاجة أم حمد زوجة عبد الله فتحت له موضوعا جديدا لم يكن يخطر بباله قالت له الخريف على الأبواب وحجر لا يمكن ينام في الشارع والمطر تصب عليه كيف الحل ؟ وهي لن توافق أن ينام داخل الصالون مع أولادها .. رغما عن شكله الطيب وكل شئ لكنها لا زالت غير مطمئنة له .. وعبد الله أكيد لن يفتح له الدكان لينام بالداخل ..
أذا ما الحل .. يا حاجة خليها على الله .. دا راجل طيب و زول الله أكيد ربنا سيحلها له ولنا ..
الهاجس الذي زرعته أم حمد في رأس زوجها عبد الله خلق له هم فعلا .. الخريف على الأبواب . كلها بضعة أيام وستنهال عليهم المطر .. كيف الحال سيكون مع حاج حجر .. ليس من الإنسانية أو حتى الذوق أن يتركه ينام تحت زخات المطر .. بل أن أهل الحي سيلقون عليه لائمة كبيرة .. وخاصة بعد أن أصبح حجر يقدم له خدمات جليلة فقط مقابل إيوائه .. وحتى أطعامه أصبح واجبا لكل أهل الحي .. هذا سيجعلهم ينظرون اليه كشخص انتهازي استغلالي .. استغل طاقة هذا المسكين حتى دون أن يوفر له مسكنا آمنا .. سوى سرير يهجع اليه أمام الدكان بعد أن يقضي يومه الشاق .. صحيح هو لاحظ أن حجر أصبح له دخل لا يصرف منه شئ ..أذ أن مأكله وملبسه أصبح خارج إطار هذا الدخل .. وكما لاحظ أن المطر أصبح يستخدم حزاما به جيوب أشبه بالذي يستخدمه المعتمرون ..أكيد منحه له أحد أهل الحي ..فأصبح ملازما له يلبسه دوما ويدخر به دخله الضئيل .. والذي بالتأكيد ستراكم ويصبح مبلغا ضخما طالما أنه لا يصرف منه شيئا ..
مالك مهموم كدا يا حاج عبد الله لعله ما في عوجة .
جملة أطلقها الطاهر من أهل الحي وهو يدخل الدكان في ذات الصباح .. بعد ان لاحظ لسرحان عبد الله وهو حتى لم ينتبه لدخوله عليه .
- أبدا يا حاج الطاهر بس شايل هم حاج حجر دا حينوم وين لامن المطر تنزل .. الحاجة رافضة ينوم مع أولادها في الصالون قالت لسع ما شاعره بالامان من ناحيته .
- انا عندي فكرة خليه يجي ينوم عندنا في الصالون أصلا صالونا فاضي وأنت عارف انا ولادتي كلها بنات وما عندي ضيوف .
الفكرة هائلة التي اتحفه بها الطاهر . لكنها ولدت هاجسا جديدا خاف لو حجر أصبح ينام عند الطاهر في بيته تغير ولاؤه من عبد الله للطاهر ربما فلت منه الى الأبد .. وأصبح يشتغل عند الطاهر .. هؤلاء الدراويش عادة ينحازون الى صاحب الفضل الأكبر في حياتهم إذا عليه أن يرفض هذه الفكرة فورا دون أن يبين هذه المخاوف .
- أنا بقول عندي فكرة أحسن لانه نوع حجر دا ما متعود ينام داخل البيوت نحن أحسن نبني له راكوبة أو كشك قدام الدكان أهو يكون قدام محل شغله ( محاولا أن يوحي للطاهر بأن حجر أصبح موظفا عنده براتب ) .
- خلاص برضها فكره كويسة وأنا بساهم معاك عندي خشب أبواب وبابيك بعد ما غيرنا أبوابنا بأبواب حديدية ..
- - كثر خيرك وانا كمان عندي شعب ومروق والواح زنك في المخزن قاعدة من زمن غيرت عرش الدكان .
- خلاص فكرة ممكن يعمل راكوبة ويعرشها بالزنك حيكون في امان الله .
- خلاص خلينا نبدأ من اليوم ..
- طيب خليه يجي معاي عشان يجيب الخشب .
- ويبدأ عبد الله ينادي في حجر ... تعال يا حاج حجر تعال .. روح مع شيخ الطاهر أنقل معه خشب أبواب وشبابيك جيبها هنا .. خلاص روح يا الطاهر انا راح اخليه يلحقك بعد يشرب شاي الصباح . ( لانه يريد أن يخلي بحجر ويطرح له الفكرة حتى يحس بالحماس والاقبقال على العمل بهمة أكثر عندما يعرف أن هذه الأغراض تخصه شخصيا ليبني بها كوخا يأوية من المطر .)
- يا ولد قول لأمك تجيب الشاي لحجر في الدكان .
حجر جالس في السرير أمام عبد الله وهو يتناول شاي الصباح مع بضعة رغيفات كما أعتاد ..وكما أعتاد أيضا أن تخصص له الحاجة كباية كبيرة من التي يقدم بها العصير عادة يشرب بها اثنين أو ثلاثة مرات شاي الحليب حتى يخلص الإبريق تماما مع ثلاثة او أربع رغيفات قبل وجبة الافطار في الساعة العاشرة .
- يا حاج حجر المطر جايي أنت ما ممكن تنوم في المطر أنت روح جيب الخشب من الطاهر وشيل الزنك والمروق من زقاق البيت عشان تبني راكوبة هنا قدام الكان تنام فيها من المطر البرد .
نظر حجر فرحا أبتسامته البلهاء .. وقال : حجر عايز منشار ومسامير وشاكوش عشان يبني بيته .
- يا زول مسامير شنو هي راكوبة تربطها بالحبال وخلاص .
- لا حجر لازم يشتغل بالمسامير والمنشار حجر يعرف .
(ياخ أنت خسران شنو رسل ولدك السوق يجيب له مسامير وانا عندي عدة نجارة كاملة خليه يسوي بيته بالطريقة التي يعرفها) .. قاطعهم حاج الطاهر الذي عاد بعد أن انتظر حجر في بيته .
وافق عبد الله و نادى ولده أرسله للسوق ليحضر الخشب لحجر والذي تحت دهشتهم واستغرابهم أيضا طلب علبة غراء وعلبة سيلكون ابيض .
من أين يعرف هذه الأشياء وهو حسب فهمهم له ليس سوى درويش هائم لا يعرف الا القليل جدا عن الحياة العصرية وحتى غير العصرية .ز لكنهم آثروا الانتظار ووفروا دهشتهم للآخر .
بمساعدة أولاد حاج عبد الله وأصحابهم من ابناء الحي . نقلت الاخشاب من بيت حاج الطاهر والواح الزنك والاعمدة الخشبية من بيت عبد الله ورصت امام الدكان .. وحدد عبد الله لحجر المكان الذي قرر ان يبني فيه كوخه أو كشكه أو عريشته ايا كان المسمى في النهاية للبيت الذي سيأويه .. أستلم حجر عدة النجارة ومسكها يقلب فيها بنشوة وهو يوزع في ابتسامته الصفراء التي صبغت بلون أسنانه ..
تبرع له الشباب مقدمين خدماتهم لمساعدته .. وأيضا تحت دهشتهم أستخدم حجر متر القياس وبدأ يقيس ويحدد علامات على الالواح الخشبية بقلم الرصاص .. وحتى الزاوية القائمة المعدنية التي يستخدمها النجارون المحترفون استخدمها .. في حيرة جديدة أضيفت إلى لغزه في عقول هؤلاء الريفيين البسطاء .. من هذا الشخص .. حدد أربعة زوايا في الأرض وطلب من الشباب أن يقيموا عليها الحفر .. غرس فيها أربعة أعمدة من الخشب وصباها بالاسمنت ومن ثم على ارتفاع نصف متر ربط الأعمدة الأربعة بأعمدة أفقية جعلتها أشبه ب ( القريد بيم ) الذي يطبق في المباني الخرصانية . وثم كذلك ربط هذا البرواز من الداخل بأعمدة متقاطعة من مراين الخشب .. وفك خشب الأبواب وبدأ يغطي بها الفراغ بين الأخشاب ويثبتها بالمسامير .. يا عبد الله زولك دا مجنون ولا شنو عايز يسكن في بيت ارتفاعه نص متر أصلا هو أرنب ولا شنو ؟ جملة من جمل التهكم بدأت تصدر هنا وهناك .. يا جماعة سيبوه انتو مالكم خسرانين حاجة انا أديته الخشب وراضي باي حاجة يعملها . الجمهم عبد الله بهذه الجملة المحرجة التي جعلت بعض الفضوليين منهم ينصرفون ..
أما شباب الحي كانوا مبهورين ومستعدين لأي خدمة يطلبها منهم حجر .. وهم لم يخفوا إعجابهم وهو يستخدم معدات النجارة بكل براعة لم يشاهدوها حتى في أعرق نجاري الحارة المخضرمين .ما هذا الرجل من هو ؟..
( حجر عايز يقطع الخشبة دي من هنا ) هذه الجملة تجعلهم يتسابقون نحو تنفيذها .. رغم من أن أي منهم لم يفهم ماذا يريد أن يبني حجر .. ظهر لهم مبناه بعد أن أصبح أشبه بالطاولة المقلوبة أرجلها الى أعلى ..
خلص حجر الناحية الأرضية ومن ثم عمل نفس البرواز الأرضي في أعلي الأعمدة بدأ يقفل الجوانب بالخشب .. ترك بابا واحد وشباكين من ابواب الطاهر مثل ما هي لم يفككها كما الباقيات . والتي أتضح لهم فيما بعد أنه سيستخدمها مثل ما هي ..
تركها كما هي وعندما حان دورها ثبتها بالجوانب ومن الناحية الأمامية المواجهة للدكان ثبت الباب .. أصبح المبنى معالمه وضحت فهو عبارة عن غرفة خشبية مرتفعة من الأرض بمقدار نصف متر كامل .. وهذا الشئ الذي اثأر استغرابهم في البداية اذا افتكره البعض ان ما فرشه في ارتفاع نصف متر هو عرش الغرفة نفسه .. ما لم يعهدوه في بيوتهم أن تكون الأرضية مرتفعة عن سطح الأرض بمقدار نصف متر .. ونوع هذا المبنى ربما شاهدوه في الأفلام الأجنبية التي تدور أحداثها في مناطق المستنقعات .. كفيتنام وأمريكا الجنوبية والفلبين وغيرها من بلدان العالم .. هذا شئ أضاف من أرصدة الاستفهمات حيال هذا الرجل من أين أتى هذا الذي يعرف كل هذه الأشياء و لا يتقن التحدث في كلام مفيد مفهوم .
بدأ حجر في مرحلة السقف أنتبه الشباب أن العوارض العلوية وضعها في شكل مائل بزاوية واحدة فرش عليها ألواح الزنك وبدأ يثبتها ..أذ بدأ الزنك منحدرا ليسهل انسياب المطر ..
ظهر شكل الغرفة جميلا أدهشت عبد الله نفسه بعد أن خرج من دكانه ليشاهد المرحلة التي وصل لها العمل .. الرجل في خلال أربعة ساعات بنى غرفة خشبية جميلة سقفها بالزنك .. وركب لها الأبواب والمفصلات وأمام الباب عمل سلما خشبيا قصيرا .. أما الشباب من شدة إعجابهم بدأوا يصورن في هذا المبنى الغريب الذي نبت في غضون ساعات على ناصية حارتهم..
بقيت كمية من الأخشاب أدخلها حجر داخل الغرفة وقفل عليها الباب .. وجاء ناحية عبد الله وقال له : حجر عاوز يمشي السوق يشتري أغراض لبيته ..
تبسم عبد الله ونادى على ابنه : تعال يا خالد أمشي مع عمك حجر بالعربية عاوز يشتري أغراض لبيته .. حاول عبد الله أن يمده بمبلغ من المال لكنه رفض وقال : حجر عنده مال كفاية ..
ذهب حاج حجر مع خالد بن عبد الله صاحب الدكان بسيارته ليحضر إغراض لكوخه العجيب .. لا يعرف أحد ماذا تكون .. ولا يستطيع أحد أن يخمن .. بل في اعتقادهم أن البيت الذي بناه أمامه كفاهم إعجازا ودهشة . مواد أولية قديمة لأبواب وشبابيك وعرش قديم صنع منها هذه التحفة المعمارية الصغيرة .. ورغم ذلك ذهب الى السوق ليحضر أشياء لا يدرون ماذا تكون .. هم كان عشمهم أن يعمل راكوبة كما عهدوها في بيئتهم تقيه حر الشمس على أن يجتهدوا معه فيها لتقيه كذلك المطر وهم أهل البيئة الذي يعون أن الراكوبة لا تشكر في الخريف ولا تستر ساكنها من برد الشتاء .
أصبحوا دون وعي أو اتفاق متجمعين حول السكن تجمعهم الدهشة ويوحدهم الفضول ..
- أنت زولك دا الظاهر عليه ماهو هين يا عبد الله ؟ ابتدر الصمت حاج عثمان النجار المخضرم وهو يلف ويدور حول الكوخ .
- أها رأيك شنو يا حاج عثمان في شغل الزول دا .. أظنه الراجل دا كان فتح ورشة نجاره انت علا كان تشوف لك زراعة ولا شغلة تانية تاكل منها عيش . سخرية خضر الجزار أثارت موجة من ضحك الحضور .. وغيظ عم عثمان الذي قال متفشيا : هي كان وقفت على النجارة ما هينة الله يستر من الجايي .( تلميح خبيث ) تصدى له عبد الله بطبيعة الحال باعتباره أصبح كفيل حاج حجر و المدافع عنه دوما ..قال ( تقصد شنو يا حاج عثمان الجايي حا يكون شنو وخايف منه ).
- لا بس انا قلت الزول الاديناه مواد يعمل راكوبة عمل الكشك الجميل دا .. يعني كان أديناه مواد بنا كان عمل قصر ولا كيف يا جماعة ؟
- يا جماعة خلاص اسكتوا أهو الجماعة وصلوا يا هو حاج حجر وصل مع خالد . والبوكس مليان مواد ..
وفعلا وصلت السيارة . ونزل منها حجر وخالد ومعهم شباب الحي وبدأوا ينزلون المواد التي اشتراها حجر .. بعضها علب طلاء وعلب معجون خشبي وأوراق جلخ الخشب ( سنفرة) ومواد كهرباء وأسلاك كهربائية ومفاتيح نور ومروحة جدارية دوارة .. وعلب لم يعرفوا ما بها .. ومضخة سليكون وكذا صباع من السليكون الأبيض والأسود ..وقفل باب بمفتاح وكوالين صغيرة من تلك التي تركب للدواليب والأدراج
القي عليهم حجر السلام وبدأ خالد وأصحابه من الشباب ينزلون في المواد .
وعاد خضر مع الشباب للعمل مع الشباب على كوخه ..كان الشباب متحمسين ومستمتعين بالعمل معه .. إذ أرشدهم في أن يقفلوا الفتحات الصغيرة والشقوق في جدران الكوخ بالمعجون الخشبي مستخدمين سكين المعجون التي شرح لهم طريقة استخدامها .. ومن ثم بدأت عملية السنفرة والتلميع .. وبعدها بدأت عملية الطلاء . إذ أختار اللون البني الغامق لكل الكوخ ثم عمل شكل برواز أبيض لأعمدة الأركان وكذلك الباب والشبابيك طلاها باللون الأبيض .. ومن ثم بصحبة خالد صعدوا في سطح الكوخ من الأعلى وبدأ يعلم خالد كيف يغلق فتحان لوح الزنك بمادة السيلكون السوداء .. ثم دخل أيضا بمساعدة خالد الى داخل الكوخ وبدأ في تثبيت أسلاك الكهرباء .. و ركب اللمبات ومفتاحها وثبت المروحة في الركن من الداخل وعمل لها مقبس خاص مدد سلك طويل خارج الكوخ .. وطلب من عبد الله أن يسمح له بتوصيل الكهرباء من الدكان . عبد الله أخرسته الدهشة وغلبه الكلام وبدأ يتجاوب بإيماءات من رأسه فقط ..
وصل حجر الكهرباء الى كوخه ونورت اللمبات فعلا واشتغلت المروحة .. وكل ذلك تم تحت فرح وسعادة الصغار والشباب وصمت الكبار المريب الذي أصبح يحمل نوايا لا تحمد عقباها .. خافوا فعلا من شبح هذا الرجل الغريب .. الذي ظنوه درويشا يستجدي لقمة العيش لكن الآن فقط أثار مخاوفهم تماما .والذي يبدو أن ما خفي أعظم .
وفعلا ما خفي أعظم .. لان حجر بعد ما أنار الكوخ وطمأن الى عزله المائي بدأ في مرحلة الداخل أذ طلب من خالد وأحد أصدقائه مساعدته .واستخرج لفافات من الورق كلهم كان يقتلهم الفضول ليعرفوا فيما تستخدم .أذ أتضح أنها أوراق حائط .. فتحها حجر وبدأ طلاءها بمادة الغراء وتلصيقها على الجدران من الداخل .. وكانت الأوراق في شكل لوحة طبيعية تشبه المناظر التي تؤخذ من جزر الكاريبي أذ تكثر بها مناظر نخيل جوز الهند والسواحل الرملية البيضاء والخضرة النضرة ..أصبح منظر الغرفة من الداخل كأنها لقطة من أحد شواطئ جزر الكناري أو هاييتي أو أندونسيا ..مع أضاءة’ لمبات النيون البيضاء .أصبح العالم في الداخل مختلف تماما عن بيئة القرية أو الحارة التي يعيشون بها .
خلال يوم واحد أصبح بيت حجر رمزا للدهشة والحوار داخل الحارة ..( أنتو ما شفتوا بيت حجر ..أرحكم نشوف بيت حجر )
( معقولة الزول دا هو الكان يجي يكسر لينا الحطب في البيت ؟)

(انا من زمان قلت ليكم الزول دا ما ارتحت ليه الظاهر وراه سر كبير )
لسع في خشب كثير لماه حجر قدام بيته يا رب حا يعمل بيه شنو كمان ؟؟

(انا خايف يعمل بيه عربية ؟)

( هاهاهاهاها الله يجازي محنك يا عم عثمان )
قضي حاج حجر بصحبة شباب الحي خالد وأصحابه طيلة نهار اليوم وحتى قرابة المغرب يعملون بجد ونشاط وملبيين أوامر معجزتهم حاج حجر .. غير مخفيين إجابهم بعبقريته .. فهو تجسيد عملي للمثل الشعبي الذي يقول ( يصنع من الفسيخ شربات) ..وهو كذلك أصبح يتعامل معهم بكل اريحية يناديهم باساميهم كأنهم أبنائه أو تلاميذه بصورة أدق ..( تعال يا حسام أقطع الخشبة دي من هنا . يا خالد أرفع معاي .. وهكذا ) معقولة أبواب حمامات قديمة وشبابيك غرف استطاع أن يبني بها هذه التحفة الرائعة . ولم يكتفي حجر بالبيت فقط أذ أن باقي الاخشاب حولها لاثاث . صنع منها دولاب قصير بقفل أشبه بدواليب المطبخ كذلك صنع سريرا مثبت بمفصلات على الجدار بحيث يمكن طيه وتعليقه في الحائط وكذلك صنع مقعدا عاليا اشبه بالذي يستخدم في المعامل ( ستاند ) وكذلك فرش ارضية الغرفة بمشمع أخضر تكامل مع اللوحات الجدارية .. الشباب تعبيرا عن اعجابهم أخذوا الصور التذكارية معه من داخل الكوخ وبجواره و من كل الزوايا . أصبحت المشاعر متباينة تجاه حاج حجر من أهل الحي حسب الفئات السنية . شباب الحي يقابلونه بالاعجاب والانبهار بل كاد أن يصبح ملهمهم وزارع الأمل في نفوسهم .. الاطفال الصغار لا زالوا يخافونه بعد مغامرتهم الشريرة .. بل كانوا يتفادون الأقتراب منه عساه قد شاهدهم وحفظ أشكالهم . وقد زاد رعبهم بعد أن شاهدوا هذه الغرفة الخشبية التي نبتت كأجمل ما يكون في ناصية الحارة وفي غضون ساعات قليلة .. هذه لن يفعلها الا من كان في معاونته جن أو شياطين ..والعياذ بالله .. نظرة الأطفال لا تختلف كثيرا عن نظرة أمهاتهم النساء أذ أن شبح الدجل والشعوذة تمدد في نفوسهن وبدأ بعضهن يضيف قصص وهمية تحلي قعدة القهوة . من نوع ( شوف عيني يومداك شايفاه راجع من الجامع بالليل وفي نور ماشي جمبه وكان بيتحدث معاه بس شافني طوالي سكت .)
أما فئة الرجال أي الآباء أهل الحي نبدأها بهذا المشهد من منزل الاستاذ أسماعيل استاذ اللغة الانجليزية ذو الميول الاشتراكية التي تقربه من الالحاد .. وقد كان رافضا فكرة وجود حجر في الحي من اساسها ظانا انه دجال مشعوذ ارسلته فئة ضالة لتزيد أهل الحي ضلالا على ضلالهم كما زعم .
هيثم ولد اسماعيل جا قال يا امي ( والله يومداك شفت حاج حجر بيقرا في جريدة انجليزية ويضحك ) .. هي يا ولدي بسم الله دا راجل درويش ساي من أهل الهن عرفه شنو بالقراية كمان ؟ تلاقيه بيقلد الناس زي ما حمودي اخوك بيحاكيكم يشيل كتبكم ويعمل فيها بيقرا هاهاهاها . قاطعها اسماعيل :( أهل الله ومال نحن أهل منو .. انتو أصلا ما في شي مضيعكم غير جهلكم وتخلفكم دا ؟)
يا راجل هسع أنت مالك شابي لينا في حلقنا هسع انا قلت شنو زعلك .أنت قلت الراجل الدرويش دا ما يدخل بيتك .أها نحن من دون ناس الحلة لا جا نضف لينا ولا كسر لينا الحطب .. حتى الكلام دا عاوز تحرمنا منه .
أوفف خلاص قمتي لنقتك اها انا طالع مخلي ليك البيت دا ماشي أقعد في دكان عبد الله مع الناس . خرج اسماعيل وهو ليس لديه ادنى فكرة عن بيت حجر الجديد .
تحرك أستاذ اسماعيل ناحية دكان عبد الله حيث الجلسة العصرية المعتادة قبيل المغرب . كما ذكرنا كان عنده فكرة رافضة تماما للالقاب والصفات التي أطلقها أهل الحارة على حاج حجر من صلاح وكرامات وغيرها .. وبخلفيته التي هي أقرب للالحاد كان ينتقدهم . يقول لهم هو لو زول مجنون محله مصحة الأمراض العقلية ما وسط الناس ويدخل بيوتهم كمان .. ولو زول عاقل مفروض يشتغل زي باقي الناس يعمل بيت وأسرة .. لكن كلكم تنكبوا دعم في الرجل لانكم رثيتوا لحاله فقط .. كان أهل الحي يقفون لاستاذ اسماعيل بالمرصاد دفاعا عن الغلبان حاج حجر .. بل كان ذلك الحديث يزيد حماسهم ودعمهم لحاج حجر .. وبدل ما كان يتصدقون عليه بفضلات طعامهم ..أصبحوا يطبخون له طبخات خاصة .. عادي تسمع (حاجة تتباهى مع قريناتها بأنها ذبحت زوج حمام وقدمته مع الشوربة لشيخ حجر .. وأخرى تقول الليلة أنا شديت فول في البيت عجبني أديت منه صحن لحجر )..
دخل أسماعيل والقى تحية كاملة الدسم على رجال الحي . لكن شعر بأنهم غير مكترثين بمقدمه وانما مشغولين بأمر ما . أذ كانوا يراقبون في حجر مع الشباب وهم يضعون اللمسات الاخيرة على بيته بتنظيف نشارة الخشب والأوساخ من حول الكوخ . تفاجأ اسماعيل ولم يصمت ( دا شنو دا كمان زولكم عملتوا ليه ضريح من هسع ؟؟) .. أنفجر بعض الرجال ضحكا .. لانه اسماعيل عبر عن حيرة وغيظ كان ينتابهم فكتموه خوفا واعتبارا لحاج عبد الله . الذي نظر الى اسماعيل بإستياء واضح . ورد له .
- القال ليك منه نحن عملناه ليه دا بناه براه بضراعة .
- شنو معقولة الزول الدرويش دا هو بنا التحفة دي ؟ وين لقى المواد دي ..اوعى تقولوا لي أحضرها له عفريت من الجن ؟
وأنفجر الحضور ضحكا مرة أخرى ..
عبد الله كذلك رد مدافعا : يا اخوي المواد الشايفها قدامك دي لو شفتها قبل ساعات ما تدفع فيها جنيه واحد .. دي ابواب حمامات وشبابيك قديمة بتاعة حاج الطاهر ولوح الزنك والمراين ديل انا كنت عارش بيهم الدكان زمان قبل ما يجو الحرامية ويقدو السقف . اها غيرتو وكنت راميه في المخزن .
جلس اسماعيل متحيرا مع المتحيرين وقال بصوت اشبه بالهمس : خلي بالكم الزول دا ما هين .. وراه سر كبير .. برضه تاني دخلوه بيوتكم . قال زول الله قال ..
عبد الله : ما له هسع تم في الحلة دي اكثر من ثلاثة شهور حصل أذى ليه واحد فيكم ..
أسماعيل : ما مهم يأذى زول لكن يمكن يكون جاسوس اسرائيلي في حالة خمول تام .
عبد الله : جاسوس اسرائيلي يجي حلتنا فيها مفاعل نووي ولا مصفى بترول كمان ؟.
يقطع حديثهم دخول الشاب خالد ابن عبد الله : أبوي عازين سكر وشاي ؟
- عايزنهم في البيت ؟
- لا عم حجر عنده براد كهربا وكبابي اشتراهم معاه وقال حا يعمل لينا شاي .
- دا الكلام .. خلي بالك دا مستهدف فئة الشباب .
- شنو مستهدف والكلام الكبار الجايي ترمينا بيه من جيت .
- يا خ كلامي ما عاجبكم طيب السلام عليكم .
ذهب استاذ اسماعيل لكنه خلف أثرا كبيرا في نفوس الحضور عكسه الطاهر صاحب المساعدة الاكبر ..
- عبد الله عايزين لنا شوال فحم ..
- خلاص بخلي حجر بعد ما يخلص يجيبو ليكم في البيت .
- لا لا لا يا اخوي حجر بتاع شنو يمين حجر بتاعك دا لو جا حايم بعند بيتي ساي علا اجيب له الشرطة .
- لا الجد شنو حجر دا ما كان نص النهار في بيتكم يكسر الحطب وينضف .
- ما دي المصيبة هنا المرة وبناتها حايمات جمبه بفساتينهن قايلاتنو درويش ساي .
- الطيب الاتغير شنو ما هو نفسه حجر .
- نفس حجر ؟ علي باليمين الاوضة البناها دي انا ما دخلت فيها وانا عريس جديد تقول لي هو حجر نفسه .
- ياخ الاوضة ما بنفس خشب حمامك الوسخان هو نظفه .
- ما دا المجنني ذاتو يا عبد الله ياخ . .خلاص انا بجيب العربية وارفع الفحم براي بس حجر بتاعك دا اختانا منه عليك الله .
خلق حاج حجر نوع من البلبلة نتجت من المشاعر المتباينة خاصة من كبار السن من الرجال أذ حدثت لهم ( عجينة ) من الاحاسيس اذا جاز الوصف تتكون من الشفقة زايد الخوف زايد الشك زايد الغيرة .. والغيره هذه تطور جديد .. بعد هذا الكوخ المعجزة أصبح حجر حديث نساء الحي بل تدريجيا كاد أن يتحول الى بطلهن بدلا عن شيخهن .. الذي كان لديه دوافع و رغبة في التخلص منه أصبحت موحدة في هدفها رغما عن انطلاقها من منطلقات مختلفة .. منهم من يدعي خوفه على عقيدة الشباب من الخرافة في الظاهر .. ومنهم من يدعي الوطنية و السياسة محاولا أن يظهر أن دافعه هو خوفه على البلد من الأعداء . كأن هؤلاء الاعداء لم يجدوا يدا توجع البلد يمسكوها منها سوى حارتهم هذه .
والغيره نفسها ظهرت بأثر رجعي إذ بدأوا يجترون المواقف ويشعلون بها قلوبهم . ( يا راجل الشجرة دي ما بتقدر تقطعها أنت تجيب ليك قطايع ووجع ظهر . نادي شيخ حجر يقطعها ليك ... أسمنت شنو ما قادر ترفعوا في راس المزيره شوف عيني دي حجر يطبقهم اتنين اتنين زي المخدات )
أوففففف زفرات حارة تنطلق هنا وهنا كأنهم فرقة عسكرية تعزف على آلات النفخ النحاسية ..
أسمع هنا يا عبد الله .
- نعم يا خضر خير .
- زولك دا تشوفلو صرفة من الحلة دي ..
- يا زول استغفر الله استهدى ربك ..
- ما تعمل فيها عايز تغلبنا بالله والدين خلاص المكنات دي بقت ما بتمشي فينا .
- طيب انتو قولو لي مبرر واحد ليه ما عايزنه في الحلة . الشاف عليه جريمة واحدة عملها يقولها لي انا قدامكم هسع دي اطرده من الحلة .
عاد الصمت من جديد ربما كل واحد حاول أن يضغط ذاكرته ربما لمحة مرة يغازل في أحد نساء الحي أو البنات او يتحرش بالصبيان أو يسرق أو يأكل من اناء خلصة طعام لم يقدم له .. لكن لم يفلح أي منهم .. وعادوا الى حيرتهم من جديد .
عاد كل واحد يحاسب نفسه محاولا أن يجد مبررا ..
أخيرا قال خضر ردا ربما اراح الجميع .
- على كل حال أنا ما عايزه يجيني في بيتي لاي سبب لا ترسل معاه فحم ولا حطب ولا أي شئ .
- وانا كمان وانا كمان .
عبد الله : خلاص خير أصلا انا شغلته معاي في الدكان هنا . انتو الجيتو سقتوه يساعدكم في بيوتكم .. وانا أقول ليكم حاجة وانا كمان ما راح أسمح ليه يروح عند أي واحد منكم حتى لو قدم له دعوة أو عمل عزومة .. يعني حتى مناسباتكم ما راح يجي فيها .
- تقصد شنو يعني نحن حانزعل كان شيخ حجر بتاعك دا ما جانا في مناسبايتنا ؟
- انا ما أقصد أي شئ المهم كرامة الراجل دا هي من كرامتي وانا خاويته واعتبروه أخوي من هسع قدامكم .
- يعني أنت ذاتك ما راح تجي مناسباتنا .
- لو عايزني ما أجي ما عندي مانع لكن لازم تعرفوا اليهين حجر دا يعتبر نفسه أهاني أنا .
- يا زول ما في زول سأله وانت مالك نفسك بقى حار كدا ياخ . ياخ نحن أهل .
- لا عشان نحسم المواضيع دي يا حاج عثمان أحسن نكون واضحين من هسع .
- يا عبد الله أنت قلت الزول دا ما عندك بيه علاقة و لا بتعرفه قبل كدا طيب متبالي بيه مالك .
- يا أخوانا انتو ما مسلمين راجل مسلم استاجر بي ما أجيره يعني ربنا ذاته في القرآن ما قال لو أحد من المؤمنين استجارك فأجره .. زول لا سرق لا ضرب لا زنا جانا مستغيث نقوم نطرده فقط عشان..أتضح أنه راجل نظيف وزكي وبيعرف حاجات نحن ما بنعرفها .. قبلناه لامن كان وسخان وسبهلل وفتحنا له بيوتنا لانه درويش ..أول ما اتضح انه انسان نظيف وجميل ويعرف الجمال وله قدرات هائلة وذكاء نخاف منه ونطرده ؟ مش هو دا منطقكم ؟ بدل ما نحاول نوظف قدراته دي ونستفيد منه في تدريب أولادنا العطالة ديل وما بعيد يمكن كمان يكون متعلم يعلمهم لينا وينور ليهم طريقهم . بدل التسكع في ظل الشجر ومعاكسة البنات في الشوارع ..
خطبة عبد الله العصماء قلبت الطاولة على رؤوسهم من جديد وكل واحد عاد يحاسب نفسه في صمت من جديد . وهم لا زالوا يشخصون أنظارهم ناحية الكوخ الباهر .