الرجل الصامت
أثار فضولي صمته الطويل وانزوائه عن الناس والجلوس مع نفسه سارحا ..
مرات يتبسم وأخر يقطب جبينه . كإنه في حوار طويل مع ذاته لا ينقطع .. وأنه استغني
بنفسه عن الآخرين .. كثيرا ما حاولت جذبه نحو الجمع حتى لايجلس لوحده بعبارات
مأثورة من نوع ( الدنيا ما مستاهلة وآخرتها كوم تراب ) بالرغم من عدم قناعتي بتلك
العبارات المبتورة .. لكنا ورثناها ونعتبرها صالحة للاستخدام الآدمي في هكذا مواقف
..
يوم ما وجدت فرصة جلوس طويلة معه والقيت عليه تحية كاملة كما تقول
الكتب رداها مبتسما. مما شجعني على الجلوس
قربه .. قررت الا أخوض معه حوارا بالعبارات التي تعتبر سياطا مع نوع هؤلاء الانطوائيين
عادة .. وفكرت الخوض في الحديث معه من الوسط كأنه كان بيننا حوارا سابقا .. لعل
مشكلته تكمن في تلك البدايات وتلك العقوبات العاطفية التي تصرفها عادة باردة من
ناحيتنا ونار على قلوب الآخرين .. وقلت
- شفت الجو دا كيف حيرنا مرة برد ومرة حر ما عارفين نلبس ولا نقلع ..
- ضحك بدون صوت وهز رأسه مؤمنا ..
تفاءلت بهذا التجاوب الصامت وقلت مواصلا ومتشجعا تذكرنا زمن الصبا
وزمن الشقاوة . الغريبة كان الواحد فينا يحوم في البرد والمطر وينطط ويرجع البيت
مبلول . عادي جدا ما تجيه عوجة ؟
- هذه المرة ضحك بصوت وقال لي صدقت هسع اطفال الزمن دا الواحد لو طلع
من الحمام بدون بشكير يمرض ..
طبعا تشجعت بهذ الرد الكلامي الواقعي وقررت ان اخوض في ذات حديث
الذكريات .. قلت بالذات في المرحلة
المتوسطة وهي مرحلة بداية البلوغ الواحد عاوز يثبت انه تخطى عتبة الطفولة الى عالم
الرجال .. فيتصرف على هذا الاساس مما ينتج
منه تهورات ومشاكل عجيبة .. يشوف نفسه في البيت مثلا انه كبر مثل أخوانه ويجب ان يعاملوه مثلهم .. يتمرد على
الملابس ما يعرف بهدوم البيت وهدوم المرقة .. ويجب الا يسألوه اذا تأخر بالليل
..غايتو اكثر مرحلة جلدنا فيها هي المرحلة المتوسطة زمان التي ذابت الآن في
تنظيرات القائمين على التعليم .
قال : ذكرتني قصة طريفة .. وسكت متبسما كأنه يريد أن يرتبها ويحسن
أخراجها ..
أما انا تبسمت بدوري اصلحت جلستي حتى اوحي له بأني متشوق لكل حرف
سينطقه .
وبدأ يحكي :
وقال
لامن كنا في المرحلة المتوسطة انا كنت شقي جدا ومشاغب وكل الفصل وباقي
الفصول نادرا ما ينجون من مقالبي ومطباتي .. وتعب الاساتذة من جلدي وعقابي وحتى منادات ولي أمري وهو والدي والذي قال لهم اخيرا كان قلت لكم زمان لينا
العضم ولكم اللحم .. الولد دا غلبني خليتو ليكم لحم وعظم انشاء الله تشووه . وضحك
خاجا بطنه . ولطرافة الوصف انا ايضا ضحكت بشدة دون مجاملة .. وسكت ليواصل ..
قال يوم ما صحيت بالليل على
يد تهزني في كتفي او خيل لي ذلك صحيت
مفزوعا وشاهدت شبح شخص عملاق يلبس ابيض في ابيض ووجهه أسود وقال لي يا سعد انت راح
تموت يوم ستة وعشرين شهر ستة ونحن كنا في
بداية شهر ستة .. انا قمت مرعوبا وصحصحت واختفى الشبح .. عاينت لاخواني في الحوش
كلهم نائمين لم يسمع منهم أحد رغما عن الصوت الجهير الذي يشبه صوت الرعد ..
أصبح الصبح تماما ولبست استعدادا للمدرسة و كنت صامتا واجما حتى اخوتي
لاحظوا بأني ما بديت معهم شغب الصباح والمشاكل .. لبست ملابسي في صمت وتوجهت ناحية
المدرسة .. وقررت بيني و بين نفسي الا أحكي هذه القصة لأحد ابدا .. لكن علي
الالتزام والاستعداد لهذا اليوم ..
فعلا تركت الهزار مع الزملاء وتحولت لشخص طيب جدا .. بل حتى الزملاء
الذين يشخبطون على كراساتي ويسكبون الحبر كنت ارد لهم بعبارات من نوع ( الله
يسامحكم ) مما اثار دهشتهم .. وحتى ناس البيت لاحظوا لانزاوئي وانطوائيتي ..
والصلاة التي كان يضربوني لها قبل كل وقت صرت اؤديها في المسجد بل احيانا اروح قبل
ألأذان ..سمعت اهلي يتهامسون ويتساءلون عن الذي حدث لي .. وسامع أمي قالت لابوي :
ولدي دا ما براه لازم فيه شئ ما طبيعي لازم نشوف له دكتور ولا شيخ . وابوي رد ليها : الولد بقى هادي ويصلي وكف
الناس من أذاه نوديه لدكتور عشان يرجعوا لينا شيطان تاني ؟؟ انت يا مرة ما نصيحة
ولا شنو ؟..
كل يوم ارقب النتيجة برعب وهي تسقط منها ورقة وانا اقترب من حتفي يوم
بعد يوم ... تراكمت المقالب التي كان يعملها لي اصحابي وزملائي متوقعين ان ارد
عليهم في أي لحظة ولكن كنت ارد بالكلام الطيب فقط .. بعضهم لم يعجبهم الحال بل
غاظهم وضعي الجديد أصبحت حياتهم بلا ملح بل قل بلا شطة ..حاولوا ان ينتزعوا مني
اعترافات فكنت اختصر الرد في لا شئ ..
الا ان جاء يوم خمس وعشرين .. في نهاية اليوم الدراسي ودعت اصحابي
المقربين وقلت لهم احتمال ما نتقابل تاني .. أقربهم مني عاطف بكى بدموعه وبكاني
ايضا رغما عن تلك العاطفة الجياشة لم أفصح له عن السبب ودعتهم وغادرت المدرسة ..
في ذلك اليوم مساءا صليت العشاء وسلمت على أمي واخوتي بعبارة تصبحوا على خير ..
امي شكت مالك يا ولد عاوز تنوم من بدري .. قلت ليها تعبان شوية يا امي .. ورحت على
سريري .. وتغطيت بالبطانية .. وظليت في هذا الوضع .. بالطبع لم انم بل كت مفتح
العينين .. ومركز سمعي لاي صوت ... من خلال الاصوات من حولي سمعت ضجة اخوتي الاكبر
يرتبون سرائرهم وينامون .. حوالي الساعة واحدة صباحا او اثنين صمعت صوت خطوات تجري
من حوالي بل حتى على بطني صحوت فزعا ..
اكتشفت انهم زوجين من القطط كانوا في رقصة زفاف على جثتي المرتقبة .. بعد ما كشفت
البطانية خافا وجريا .. وعدت تاتي مغطيا وجهي وقلبي يكاد ينخلع من مكانه.. وانا في
هذا الوضع .. لم ادري الا ويد تهزني من كتفي بعنف رفعت البطانية واكتشف انه اخي
الاكبر عمر يعني لاملك ولا يحزنون : قوم
يا سعد انت ما ماشي المدرسة اليوم ولا شنو ؟ الحالة نايم من الساعة تمانية؟ ..دلكت
راسي وعيني عاينت من حولي .. أدخلت يدي تحت البطانية وقرصت بطني شعرت بالقرصة .. قلت لاخي انت النهار
دا يوم كم . رد أخي بلؤمه المعهود : عايز
بيه شنو عندك ماهية عايز تصرفها .. لا بالجد والله .. (انا قلت يمكن اكون حسبت
التاريخ خطأ) .. قال لي النهار دا يوم ست وعشرين .. فرحت ورميت البطانية وعرفت انه
من جاني قبل شهر هو اما شيطان او كابوس وقمت انطط فرحا غشيت المطبخ وقبلت أمي في
راسها ولبست ملابس المدرسة بسرعة حتى قبل اخوتي الذين سبقوني في الصحيان ..
وانا خارج للمدرسة ما نسيت غشيت الدكان واشتريت منه محبرة جديدة وعبيتها
في علبة بخاخ بدرة الجروح استعداد لجرد
الحساب ورد الديون المتراكمة .. تعرف في اليوم داك قلبت المدرسة رأسا على عقب ..
ولامن الناظر ارسل طلب استدعاء لابوي .. ابوي بعد جا قال ليهم .. الولد دا أما
يكون جن أو في حد مسلطه علينا عشان يجننا نحن .وأخذت علقة بس كانت الذ علقة آهذها
في حياتي . ياخ الحياة دي حلوة خلاص ..
اااه ايام لكن .. وختمها بضحكة طويلة ,,
انا كذلك ضحكت .. وقلت لكن هذه القصة ما بينت لنا سبب صمتك الحالي
طالما أنك رجعت للجنون من جديد ..
- قال لا دي قصة تانية براها خليها في وقت تاني ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق